الفساد والكرامة المنيعة للإنسان
على الرغم من كل ما قيل وما سيقال من تحليلات عن الأحداث في مصر إلا أن هناك أمورا وقضايا, وإن لم تصدرت الحدث, إلا أنها كانت الوقود وراء هذا الغضب العارم في وجوه المصريين. ولعل أبرز هذه القضايا وأخطرها شعور الناس, كل الناس, بالإهانة والمهانة. الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ خلق الإنسان ولما أراد أن يبين عظمة هذا المخلوق وأفضليته على جميع المخلوقات عرض أمانة الخلافة, خلافة الله على هذه الأرض, على جميع هذه المخلوقات, فخاف الجميع تحمل هذه المسؤولية, وهي مسؤولية الأمانة وقبلها الإنسان. وبقبول الإنسان تحمل مسؤولية هذه الأمانة استحق الكرامة الخاصة من الله, فكرامة الإنسان عطية من الله ومكون فطري في الإنسان, وهي لا تنفك عن مسؤولية تحمله خلافة الله على الأرض, فالإنسان تتحقق إنسانيته ومشروعيته لخلافة الله على الأرض بمقدار ما يحافظ عليه من كرامة لنفسه وذاته. ومن الأفضال الإلهية على الإنسان أن نبهه الله بأن كرامته مهددة عن طريقين رئيسين, هما الظلم والجهل, وعلى الإنسان أن يرتفع بنفسه عن الجهل وألا يقبل الظلم على نفسه حتى ولو كان هو الظالم لنفسه لئلا تنتقص كرامته ويفقد بذلك أهليته لتحمل مسؤولية الخلافة الإلهية على الأرض. الإنسان المستخلف من قبل الله على الأرض هو الإنسان الكريم العزيز, إن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين, وبالتالي فكرامة الإنسان يجب أن تكون الحصن المنيع الذي يدافع الإنسان عنه, لأنه بانهيار هذا الحصن يفقد الإنسان إنسانيته, وبانهياره تمتنع نزول الرحمة الإلهية عليه. لكن ليس من السهل أن يخترق هذا الحصن الإنساني أو ينهار, فقد يحاصر وقد يشدد عليه الحصار, لكن الإنسان قادر على أن يستجمع قواه المعنوية والأخلاقية المختزنة في أعماق فطرته لتنفجر منها طاقة إنسانية لا يقف في طريقها شيء, وهذا ما يجب التنبه إليه في دراسة حالة الشعوب والمجتمعات. ردة الفعل للشعوب المضادة أو المدافعة عن كرامتها هي قوة طبيعية فطرية, وكعادة القوى الطبيعية تتحمل مناكفتها والتعدي عليها, لكن لصبرها حدود, وبمقدار ما يؤخر هذا الصبر من ردة فعلها يزيده قوة ويجعل من ردة فعلها بركانا تتطاير حممه في كل اتجاه.
وإذا كان الظلم أكبر تهديد يمس كرامة الإنسان فإن أكثر وجوه الظلم قساوة على الإنسان هو الفساد, فالفساد يعني إيجاد بيئة تتحلل وتتفكك فيها منظومة العدالة الاجتماعية. وعندما تغيب العدالة الاجتماعية تنفتح أبواب جهنم على المجتمع, فكل الويلات التي قد نتصور أن يبتلى بها مجتمع ما تكون حاضرة وبقوة عندما تغيب العدالة الاجتماعية. والمجتمعات العربية تعاني ظلما وفسادا كبيرا, ما جعل المنظمات الدولية في العالم تحذر العالم العربي من أنه لن تقوم نهضة حقيقية في هذه المنطقة في ظل هذا الفساد الكبير والمطبق والمعوق لحركة النهضة. أقل التقديرات التي تذكرها هذه المنظمات الدولية المهتمة بالتنمية في العالم تقول إن العالم العربي يخسر سنويا ما مقداره 300 مليار دولار بسبب الفساد, هذه المليارات المسروقة هي التي أبقت نحو 40 في المائة من الشعب المصري أن يعيش تحت خط الفقر على الرغم من النسب العالية للنمو الاقتصادي وعلى الرغم من الضجيج الإعلامي والاقتصادي الذي يعكسه النشاط المحموم لسوق الأسهم المصرية, فهناك أكثر من مليون مصري يعيشون مع الأموات في مقابر القاهرة, وهناك من يحصل على عشرات الملايين من الأمتار المربعة بأسعار زهيدة باسم الاستثمار وتعزيز السياحة. حتى البنوك لم تسلم من الفساد, لأنها صارت تعطي قروضا بالمليارات من الجنيهات لمشاريع إما وهمية وإما أنها لا تساوي في قيمتها ملايين معدودة. التنمية المبنية على الفساد قد تحرك الاقتصاد وقد يكون لها ضجيج اقتصادي إعلامي, وقد تنعكس لها آثار إيجابية على سوق الأسهم والاستثمار, لكنها في النهاية تبقى تنمية رقمية ورقية واهية لا يصل أثرها إلى الإنسان العادي وسرعان ما تختفي كالزبد الذي لا يترك وراءه أثرا.
الفساد مرض موجود ويحيط بكل المجتمعات, لكن تنتقل عدواه إلى جسد المجتمع فقط عندما تضعف مناعة المجتمع, فكل مجتمع في حاجة إلى جهاز مناعي يرصد كل مظاهر الفساد ويشخصها ومن ثم يضع الآلية للتعامل معها والقضاء عليها. وهذه المناعة الاجتماعية, كما هي المناعة الجسدية, يجب أن تتسم باليقظة, لأن الفساد يحاول بكل الطرق أن يخفي نفسه, لذلك فإن الشفافية خير وسيلة لفضح الممارسات الفاسدة والتأكد من محاربتها والقضاء عليها. هناك الكثير من النقاط التي يجب الوقوف عندها في مسألة الفساد، ومن هذه النقاط ما يلي وباختصار:
1- تعزيز المحاسبة والمراقبة وبالأخص في المشاريع العامة: إن المشاريع في الوقت الحاضر وبالأخص المشاريع الحكومية باتت كبيرة ومعقدة وتصرف عليها أموال ضخمة ولها متطلبات فنية وإدارية ومالية ليست بالبسيطة, وبالتالي فإن متابعة مثل هذه المشاريع في حاجة إلى أجهزة رقابية ومحاسبية قادرة على متابعة هذه المشاريع ورصد أي مظاهر فساد قد تظهر فيها. ولا يكفي وجود أجهزة رقابة حكومية, بل إنه بات من الضروري أن يتكامل هذا العمل الرقابي الحكومي بوجود مؤسسات مدنية متخصصة ومستقلة بشرط أن تدعم هذه المؤسسات للقيام بهذا الدور. إن العمل الرقابي الذي تقوم به مؤسسات مدنية متخصصة في الدول المتقدمة أكبر مما تقوم به المؤسسات الحكومية, وبالتالي فإن المجتمع يعول عليها كثيرا في محاربة الفساد, والأهم أن وجودها في المجتمع يساعد كثيرا على إيجاد بيئة مانعة وطاردة للفساد. وجود مثل هذه المؤسسات المدنية ودعمها تشريعيا وتنظيميا يساعد كثيرا على منع الفساد وليس فقط على كشفه ومحاربته.
2- الشفافية: إن أهم شيء في حاجة إليه المجتمع في محاربة الفساد هو المعلومات الكافية والحقيقية, وهذا لا يتم إلا عندما تكون هناك شفافية ملزمة حسب القانون, فكل المشاريع العامة من منطلق أنها مشاريع عامة يجب أن تكون دفاترها مكشوفة, ويمكن الاطلاع عليها من قبل المجتمع عبر مؤسساته العامة والمدنية. وفي الوقت الحاضر تتوافر وسائل التقنية الحديثة في مجال المعلومات ما يساعد على تعزيز مبدأ الشفافية, وبالتالي فإن عدم استثمار مثل هذه التقنية الحديثة يعني أن هناك عدم رغبة صادقة وجدية في تأصيل مبدأ الشفافية, وهذا بدوره لا يخدم عملية محاربة الفساد.
3- الفساد المخفي: إن أكثر أنواع الفساد خطورة الفساد المخفي, وهو الفساد الذي يتم من خلال التلاعب بالأنظمة والقوانين في إطار يبدو فيه الفساد عملا مشروعا وغير مخل بالنظام, فالتلاعب بالمواصفات الهندسية والفنية ومن ثم تطبيق هذه المواصفات فساد مخفي, فالفساد هنا ليس في التطبيق, إنما في السماح للأخذ بهذه المواصفات غير المطابقة للاشتراطات الفنية والهندسية وأمور السلامة وغيرها. وهناك أشكال أخرى للفساد المخفي وهي عقود الباطن. في النهاية عندما تبنى مبان عامة يفترض فيها الجودة والعمر والصلاحية الطويلة بمواصفات قديمة, فهذا فساد مخفي وإن كان غير موجود نظريا, لأن هذه المباني إما ستكون غير قابلة للاستخدام بعد فترة وجيزة وإما أنها ستكون في حاجة إلى تعديل وترميم وصيانة مكلفة وكبيرة تعطل استخدامها بعد فترة زمنية قصيرة, وكل هذا هدر للموارد وتضييع للجهود.
أخيرا, يمكن القول إن الفساد نتيجته إما هدر للموارد, وهي في كل الأحوال محدودة وثمينة, وإما أن هذه الموارد تصرف في أشياء وأماكن ليست هناك حاجة إليها, وإما أنها حاجات, لكنها حاجات غير مهمة وملحة, وبهذا يحرم المجتمع من تلبية حاجاته المهمة والضرورية, وإما أن تكون نتيجته تنفيذ مشاريع مبالغ في تكلفتها. وكل هذا وذاك يعني الاستهانة بالمجتمع وكرامته, فالفساد نوع من أنواع الظلم الإنساني الاجتماعي ولا بد من التعامل معه في هذا الإطار.