التجديد الذي نريد ..

(1)
جاء في مختار الصحاح تجدَّّد الشيء: صار جديدا، و''أجدَّه'' و''جدَّده'' و''استجدَّه'' أي صَيَّرَهُ جديدا، بمعنى جعل القديم جديدا أو أعاده إلى حالته الأولى، جدَّد الثوب بمعنى أعاده إلى أول أمره.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ''يبعث الله على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها'' رواه أبو داود.
قال ابن كثير في جامع الأصول: ''تكلموا في تأويل هذا الحديث، وكل أشار إلى القائم الذي هو من مذهبه وحمل الحديث عليه، والأولى العموم''، فإن من ''تقع على الواحد والجمع ولا يختص بها الفقهاء؛ فإن انتفاع الأمة يكون أيضا بأولي الأمر وأصحاب الحديث والقراء والوعاظ، لكن المبعوث ''المجدد'' ينبغي كونه مشارا إليه في كل هذه الفنون''.
لقد ذكر علاّمة التنوير السلفي السيد رشيد رضا نماذج من أولئك المجددين فقال: ''إنما كان المجددون يبعثون بحسب الحاجة إلى التجديد لما أبلى الناس من لباس الدين وهدموا من بنيان العدل بين الناس فكان الإمام عمر بن عبد العزيز مجددا في القرن الثاني؛ لما أبلى قومه بني أمية وأخلقوا، وما مزقوا بالشقاق وفرّقوا، وكان الإمام أحمد بن حنبل مجددا في القرن الثالث لما أخلق بعض بني العباس من لباس السنة ورشاد سلف الأمة باتباع ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وتحكيم الآراء النظرية في صفات الله وما ورد في عالم الغيب بالقياس على ما يتعارض في عالم الشهادة''.
إن التجديد قد يكون تجديدا خاصا بدولة دون أخرى بحسب أولويات الإصلاح زمانا ومكانا فقال رشيد: ''وظهر مجددون آخرون في كل قرن، كان تجديدهم خاصا انحصر في قُطر أو شعب أو موضوع كبير أو صغير كأبي إسحاق الشاطبي صاحب الموافقات والاعتصام في الأندلس، وولي الله الدهلوي والسيد محمد صديق خان في الهند، والمولى محمد بن بير علي البركوي في الترك، والشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد، والمقبلي والشوكاني وابن الوزير في اليمن''.
إن التجديد يمتد إلى جميع التخصصات والعلوم فلا يقف عند التجديد الديني وإن كان الأظهر. فقال رشيد: ''وهناك مجددون آخرون للجهاد الحربي بالدفاع عن الإسلام أو تجديد ملكه وفتح البلاد، وإقامة أركان العمران فيه، وهم كثيرون.. كبعض خلفاء العباسيين والأمويين، ومنهم من جمع بين أنواع من التجديد، كالسلطان صلاح الدين الأيوبي الذي كسر جيوش الصليبيين من شعوب الإفرنج المتحدة وأجلاهم من البلاد الإسلامية المقدسة وغيرها، وأزال دولة ملاحدة العبيدين ''الفاطميين'' الباطنية من البلاد المصرية''.

(2)
للتجديد الصحيح شروط عدة، منها ما هو متعلق بالمبادئ وأخرى متعلقة بالممارسة، ومنها:
1) أن ينطلق التجديد من توحيد الله عز وجل القائل: ''إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ (48)'' النساء.
وقال تعالى: ''يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)'' لقمان.
إن النصب والتعب والتعذيب الذي قد يتعرض له المصلح أو المجدد على خلاف التوحيد لا يبَرَر له القبول الربّاني: قال تعالى: ''وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَاراً حَامِيَة (4)'' الغاشية.
2) أن يكون التجديد متبعا للسنة المحمدية على صاحبها أفصل الصلاة والسلام، وقد ذكر صاحب - عون المعبود شرح سنن أبي داود -: ''إن شرط المجدّد أن يبين السنة من البدعة ويكثر العلم ويُعز أهله، ويقمع البدعة ويكسر أهلها، ومن لا يكون كذلك لا يكون مجددا البتة وإن كان عالما مشهورا بين الناس مرجعا لهم''.
3) أن يدعو التجديد لوحدة الجماعة وألفتها لا فرقتهم ووحشتها وتجزئتها قال تعالى: ''وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانا (103)'' آل عمران.
وقال - صلى الله عليه وسلم - ''إن الله لا يجمع أمتي (أو قال: أمة محمد) على ضلالة ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار'' رواه البخاري.
4) أن يسلك المجدد منهج الاعتدال ''الوسطية'' بألا يكون سبيله الجمود والتقليد والتخندق بالماضي فيعزل نفسه ويدعو غيره لها، بل سبيله الانفتاح والتغيير فيحاكي التحضّر والتطور الإنساني العقلي بأن يفقه عصره فيحترم السنن الكونية ومنتجات الدنيا من تحديث وإدارة وعمران.
5)إن الوسائل تأخذ حكم المقاصد فيلزم أن تكون وسيلة التجديد شرعية ويتحتم إذا كان النظام السياسي شرعيا، عن تميم الداري قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: ''الدين النصيحة قلنا لمن قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم'' رواه مسلم.
ثم إن النصيحة المعتبرة شرعا لولاة الأمر يندب أن تكون للعلماء وطلاب العلم وأصحاب الخبرة والحنكة والفضل.
6) أن يغلب على ظن المجدد النجاح في دعوته ''الحساب'' فتؤدي إلى إحداث تغيير ثقافي اجتماعي مقنع وممكن وواسع يدفع باتجاه حركة البناء والعمران والازدهار فيكسب المدعوين خيري الدنيا والآخرة، يقول مجدد عصر النهضة العربية الإسلامية الأستاذ محمد عبده في مقالته: خطأ العقلاء: ''إن كثيرا من ذوي القرائح الجيدة إذا أكثروا من دراسة الفنون الأدبية ومطالعة أخبار الأمم وأحوالهم الحاضرة تتولد في عقولهم أفكار جميلة وتنبعث في نفوسهم همم رفيعة تندفع إلى قول الحق وطلب الغاية التي ينبغي أن يكون العالم عليها.
وإنهم وإن كانوا أصابوا طرفا من الفضل من جهة استقامة الفكر في حد ذاته، وارتفاع الهمة، وانبعاث الغيرة، لكنهم أخطئوا خطأ عظيما، من حيث أنهم لم يقارنوا بين ما حصّلوه وبين طبيعة الأمة التي يريدون إرشادها ولم يختبروا قابلية الأذهان واستعدادات الطباع للانقياد إلى نصائحهم واقتفاء آثارهم''.

(3)
مرّ العالم العربي بتجارب إصلاحية أخذت مناحي عدة، منها:
1) التجربة الليبرالية ''العلمانية'' العربية: ظهرت الليبرالية العلمانية كتطور تاريخي أوروبي ضد الكنيسة التي شرّعت العدوان والنهب والسرقة عبر البحار ''الاستعمار''، فيما تعسفت بالداخل المسيحي لتعزيز مواردها المالية باستخدام صكوك الغفران فظهر بسبب ذلك اتجاهان لإصلاح الكنيسة، الأول: ينادي بضرورة أن يقوم رجال الدين أنفسهم بإصلاحها من المفاسد التي لوثتها، وعلى رأس هذا الاتجاه الراهب الهولندي أرز موس، أما الثاني: ينادي بضرورة أن يفرض الإصلاح على الكنيسة فرضا على أيدي رجال الدين من خارجها بإخضاعها للسلطة المدنية ''الزمنية'' وعدم احتكار تفسير الكتاب المقدس من البابا وإباحة زواج القسس وحق الطلاق للنصارى وعلى رأس هذا الاتجاه: مارتن لوثر، زونجلي، كلفن، وسمي هؤلاء بالبروتسنانت ''المحتجين''.
قامت بسبب هذا الانقسام؛ الحروب الدينية وذهب ضحيتها آلاف على يد محاكم التفتيش، حيث قتل عام 1572 مائة ألف مسيحي بروتستناتي، فيما بلغ ضحايا الكنيسة حتى نهاية القرن الثامن عشر تسعة ملايين، ثم جاءت الثورة الفرنسية كنتاج لعنصر الأنوار عام 1789 لتقضي على السمو الكنسي تماما الذي أعلنه غريفوري السابع (1072– 1085) من أن الكنيسة هي صاحبة السيادة في العالم كله وأنها تستمد نفوذها من الله مباشرة وأنها معصومة لا تخطئ ولا تضل أبدا.
جاء الليبراليون العلمانيون العرب للسلطة على حساب الأنظمة الملكية في مصر عام 1952، وفي تونس عام 1957، وفي ليبيا عام 1969 مسقطين التطور التاريخي الأوروبي على التاريخ العربي الإسلامي بكامله، في حين أن فساد الولاة والعلماء وتردي الأوضاع السياسية والاقتصادية كانت مرحلة زمنية معينة لا تستدعي التخلي عن النظام السياسي الإسلامي.
كما حضت تلك النخب الفكرية والسياسية والعسكرية بدعم الاتحاد السوفياتي سابقا والولايات المتحدة وأوروبا في نفاق بغيض، حيث الممارسة الليبرالية العلمانية الإنسانية داخل دولهم فيما الإعلان عنها خارجيا في وسائل الإعلام والمنظمات الحقوقية مع دعم بيّن للظلم والقهر لكرامة الإنسان العربي حينما تقتضي مصالحهم ذلك.
لقد ثار أهلنا في تونس ومصر وليبيا على أنظمة الحكم الفرد العلماني العسكري وأرجعوا عقارب الساعة للوراء كما يجب أن تكون منذ أن صدح بها الصالحون الأحرار في جزيرة العرب: ''لا معبود بحق إلا الله''.
2) تجربة الخوارج الجدد: يمارس خوارج العصر الحديث التكفير ثم إعلان الجهاد ليس لتحرير القدس بل بالإيغال في دماء المسلمين أو الذميين أو المعاهدين المعصومة، سعوا فيها لاستنزاف طاقة الأمة الباقية من التخلف وتحالفوا من حيث لا يعلمون - الجهل والحماقة وضعف النظر - مع قوة الاستعمار الاقتصادي الجديد فأفسدوا حيث أرادوا أن يصلحوا؛ لقد حذرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم بقوله: ''يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وعملكم مع عملهم، ويقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في النصل فلا يرى شيئا، وينظر في القدح فلا يرى شيئا، وينظر في الريش فلا يرى شيئا، ويتمارى في الفوق'' رواه البخاري.
إن تنظيمات ما سمي بالجهاد المصادمة لقوانين التجديد والتغيير أرادت بسذاجة الانقلاب فحصدوا فشلا ذريعا، فهم إما في السجون أو قتلوا وفي ذمتهم أرواح آلاف الأبرياء وتركوا لنا إسلاما مطاردا بالعالم بتهمة الإرهاب فأرجعوا الدعوة الإسلامية كثيرا.. إن هذا الإصلاح البدعي هذا نتيجته.
3) تجربة الليبرامويين: أقدّر عاليا بعض المسلمين العرب الذين تأثروا بقيم الحرية والعدالة والمساواة ووجدوا في الفكر التنويري الأوروبي مكاسب إنسانية فأرادوا التجديد بأن يكسبوا للنظام السياسي والاجتماعي في الإسلام قوة إضافية، وتجد هؤلاء حريصين على توحيد الله في السماء وتوحيد الناس في الأرض ومخلصين لقضية حقوق الإنسان ونصرة الضعيف والمظلوم فتقاطعت بعض مفاهيمهم مع مفاهيم عامة في الليبرالية الغربية.
بينما على الجانب الآخر لقطاء لليبرالية الغربية سطحيو الفهم انشغلوا بالسهر ليلا وأشغلوا الناس بقضايا شكلية وفرعية نهارا يدّعون المظلومية ويتحالفون مع أصحاب المظلومية الدائمة والطويلة عبر التاريخ همّهم التأليب والشكوى والتّذمر والصراخ والعويل وهم ممكنون في بعض وسائله يجتزئون التسامح والحوار ويحرمونه في الوقت ذاته على خصومهم، والحمد لله؛ فعلى الرغم من زعيقهم المجلّجل إلا أن حضورهم شعبيا ضعيف للغاية، فالناس لا تفهمهم وهم لا يفهمون الناس، يقول الأستاذ الدكتور عبد الله الغذامي عن هذه الفئة القشيرية: ''إنهم سذج ومشوشون ومتناقضون ولا يؤمنون إلا بحريتهم هم فقط، وهم بلا مشروع ولا خطاب سياسي، ويمارسون تزيين الوعي ويرتكبون فضائح في تصرفاتهم، ومحاولة حجرهم على حريات الآخرين''.
4) تجديد العلماء: إن التجديد الصحيح هو من اكتمل فيه شروط الإصلاح السني التي ذكرتها آنفا، فهي المدخل الشرعي والعقلي ويتأكد هذا في السعودية لأسباب دينية وأخرى اجتماعية واقعية، ومن أولئك المصلحين المجددين الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ والشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمهما الله - اللذان حمئا وحدة النظام السياسي بأن قالا لعامة المسلمين في الأزمات ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - فعن نافع مولى ابن عمر قال: جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحرّة ما كان، زمن يزيد بن معاوية، فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة، فقال: إني لم آتِك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثا سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ''من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية'' رواه مسلم.
ثم حموا مصالح الناس فعبروا عنها بقوة وبأدب جمّ في مجلس مغلق، ويعلم الولاة أن هؤلاء صادقين فيذكر العلماء السلطان بقولهم: عن الحسن قال: عاد عبد الله ابن زياد، معقل بن يسار المزني في مرضه الذي مات فيه فقال معقل: إني محدثك حديثا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو علمت أن لي حياة ما حدثتك له، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ''ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة'' رواه مسلم.
ثم يحفز هؤلاء المخلصون المتعففون السلطان بقولهم: عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ''إن المقسطين عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن - عز وجل - كلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا'' رواه مسلم.

(4)
إن تجربتنا السعودية ذات الثلاثمائة عام من عقدنا الاجتماعي بين الولاة والعلماء والأفاضل وعامة المجتمع الأبي الكريم تجعلنا واثقين أن قدرنا بحوله وقوته النجاة والمثابرة والبناء، كلٌ حسب طاقته وتأثيره فنجعل من المحنة منحة ومن الأزمة فرصة فكلنا راعٍ وكل مسؤول عن رعيته.
أيها السعوديون .. ما أردت تثبيط الإصلاح بل توجيه البوصلة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي