وأخيرا .. أصبحت للإسكان وزارة
لم يعد يوم الجمعة ذلك اليوم الذي يصفه البعض بالكآبة، ولم يعد مكانا للكسل والنوم الذي يراه البعض ملجأ لهم من متاعب بقية أيام الأسبوع. يوم الجمعة، وهو أشرف أيام الأسبوع، أصبح يترقبه الجميع بما يحمله بين الفينة والفينة من أخبار. وإذا كانت أخبار الجمعة في كثير من الدول المجاورة تأتي حافلة بالصخب والثورات والمشكلات والقتل والتنكيل، فإن أخبار الجمعة في بلادنا تأتي دوما مليئة بالخير والعطاء والأمل. هذه الجمعة حملت في رأيي خبر صدور أحد أهم القرارات في تاريخ التنمية في المملكة في السنوات الأخيرة، وأحد أهم القرارات التي انتظم صدورها في الأسابيع الأخيرة، والتي بدأت تنهال خيرا على الوطن منذ عودة مليكه إلى أرض الوطن سليما معافى. هذا الخبر أسقط من قائمة الأولويات كل الموضوعات التي كنت أنوي تناولها بالكتابة في هذا المقام، ووجدتني أسطر هذا المقال لأجزل به الشكر والامتنان لخادم الحرمين على ما عبر به هذا القرار من حرصه ـــ حفظه الله ـــ على معالجة هذه القضية الحيوية من قضايا التنمية، ولأجزل الدعاء لوزير الإسكان بالتوفيق والسداد لأداء متطلبات هذه المهمة العسيرة.
أكثر ما ميز هذا القرار ليس أنه عبر عن رفع سقف الاهتمام بهذه القضية لتكون قضية وزارة عوضا عن قضية هيئة تكبلها اختصاصات واستراتيجيات ومرئيات العديد من الجهات الأخرى، ولكن أكثر ما ميز هذا القرار هو الشمولية التي أكدها في التعاطي مع هذه القضية، وتأكيد اختصاصها بعناصر حل القضية، وأهمها الأرض والتمويل، فهل بعد ذلك من سبيل إلى الفشل؟ لا يمكن أن يكون أي فشل بعد هذا القرار إلا نتاجا لتقصير الأفراد والمسؤولين في أداء مهامهم على الوجه الأكمل، أو نتيجة لتعمد جهات أخرى وضع العصي في الدواليب لإعاقة مهمة هذه الوزارة وتعطيل حل هذه المعضلة. لا يمكن أن يكون الفشل بعد اليوم إلا فشلا متعمدا يستحق التعامل معه بحزم وحسم، إذ إن هذه القضية قد استفحلت واستعصت وتفاقمت.
وزارة الإسكان الوليدة تمثل الفرصة الحقيقية الأولى منذ فترة طويلة لحل هذه الأزمة الكأداء، خاصة أنها تأتي في وقت سخرت فيه الدولة كما هائلا من الموارد المالية لمعالجة هذه المشكلة، ويأتي إنشاء هذه الوزارة أخيرا ليوفر البيئة المؤسسية اللازمة لتحقيق هذا الهدف.
ولأن هذه الوزارة لا يمكن لها إلا أن تحقق النجاح بعد أن توافرت لها كل أسبابه، ولم يبق إلا شحذ الهمم والتشمير عن السواعد لبدء العمل الجاد لمعالجة هذه القضية، فإنه يصبح لزاما علينا معشر الكتاب أن نغير لهجة الحديث ليكون أكثر إيجابية وأكثر ثقة بهذا المنحى الجديد في التعاطي مع هذه القضية. لقد كنت دوما أقول إن مشكلة الإسكان مشكلة عميقة الجذور، ولا يجوز لحلها أن نقدم مبادرات مجتزأة ومفككة لا تعدو أن تكون مسكنات لا تعالج أصل المشكلة. اليوم وقد أطلق الملك هذه الوزارة، وسلحها بالصلاحيات والاختصاصات اللازمة لتمكينها من أداء هذا الدور، فإن أجدر ما تفعله الوزارة في بادئ عهدها أن تنظم ورشة عمل ضخمة لمناقشة هذه القضية، ورشة يشارك فيها كل من له علاقة بهذه القضية من أجهزة الدولة ومؤسساتها، وكل من يعمل في هذا القطاع أو حوله من شركات القطاع الخاص، وكل من يحمل فكرا جادا أو معرفة عملية حول أي من جوانبها. ورشة العمل هذه يجب أن تكون ذات شكل ومضمون مختلف عن المؤتمرات التنظيرية والدعائية التي نشهدها من وقت لآخر، ورشة عمل حقيقي تخرج بمسار استراتيجي يوظف خلاصة هذه الخبرات والمعارف، ويحدد أدوار كل من هذه الجهات في مسار التصحيح، ويضع برامج وأهدافا زمنية ترسم الأمل للمواطن الذي ينتظر نتائج عمل هذه الوزارة.
إن دعوتي لعقد هذه الورشة لا تعبر عن قصور الثقة بالفريق المكلف بإدارة هذه الوزارة، بل إنها تعبر عن رغبة في دعم تلك القدرة بما يملكه المجتمع من قدرات وخبرات، والأهم من ذلك بتحديد واضح ومعلن وفق اتفاقات واضحة مع بقية أجهزة الدولة ذات العلاقة. لا أريد لهذه الوزارة أن تصطدم بالعقبات ذاتها التي تصطدم بها جهود العديد من أجهزة الدولة التي يسبح كل منها في تياره الخاص، بل أريد لها أن تأخذ بتيارها كل الوزارات والأجهزة الأخرى لتكون كلها سندا لها في أداء مهمتها الجسيمة. لا أريد لهذه الوزارة أن يشتكي مقاولوها من مشكلة تأشيرات وزارة العمل، أو من تعقيدات نظام المشتريات الحكومية، أو من متطلبات واشتراطات وزارة الشؤون البلدية والقروية، بل أريدها أن تملك زمام المبادرة لتكون القائد الأوحد في نطاق اختصاصها بقضية الإسكان. الشيء الأخير الذي أجدد التنبيه إليه، يجب ألا تغرق هذه الوزارة في مسألة البناء المباشر للوحدات السكنية، فهي لن تستطيع تحقيق النجاح في معالجة هذه القضية بهذا الأسلوب مهما سخرت لها الدولة من موارد وإمكانات. والسبيل الأوحد لمعالجة هذه المشكلة هو في العمل على تحويل الإسكان إلى صناعة احترافية ممنهجة، وتأسيس شراكات فاعلة مع القطاع الخاص لأداء أدوار محددة ضمن استراتيجية التطوير، والقيام بدور المراقب والمنظم والموجه لتنفيذ هذه الاستراتيجية.
خلاصة القول، هذه الوزارة الناشئة ربما تكون أكثر الوزارات قدرة على تحقيق نجاح بات مطلب الجميع، وهذا الوزير يعيش فرصة حقيقية لأن يخلد التاريخ اسمه إن استطاع أن يحل مشكلة أرقت الوطن والمواطنين. كل ما آمل أن تعيه الوزارة ويعيه الوزير أن يدا واحدة لا تصفق، والمشكلة أكبر من أن تحل بجهد منفرد.