الفوضى والإصلاح .. الغاية والوسيلة

1- معروفة جدا مقولة المفكر السياسي الإيطالي الأشهر ''نيكولو ميكافيلي'' صاحب كتيب ''الأمير'' في القرن الخامس عشر الميلادي، ''الغاية تبرر الوسيلة''، وهي مقولة صُنّفت على أنها فكرة متقدمة للنفعية والواقعية السياسية التي ترى أن المصلحة المادية والسلطة هما القوتان المحركتان للتاريخ على اعتبار أن كل ما هو مفيد ضروري.
هذه القاعدة والتي صُنّفت على أنها لا أخلاقية كونها تعظم من المصلحة المادية على حساب القيم الإنسانية، هي التي قامت عليها السياسات منذ ذلك الحين حتى اليوم بكل أسف، وأصبح التلازم ما بين الغاية والوسيلة أساس كل سياسة تريد تحقيق مصالحها بصرف النظر عن أدواتها، ولعل الغرب هو خير من استوعب الفكرة وطبقها حرفيا بدءا من حملاته الاستعمارية التي مارسها بقسوة ونهبه لثروات الشعوب المستعمَرة، وانتهاء بما نراه اليوم من هيمنة واستخدام للقوة لخدمة أهداف وغايات حتى لو دعت الضرورة للوحشية المفرطة.
2- بعيد غزو واحتلال الولايات المتحدة للعراق وما نتج عنه من نقلة من حالة أمن واستقرار رغم القبضة الدكتاتورية آنذاك، إلى فوضوية لم يخرج منها وبالرغم من الديمقراطية والحرية السياسية، أطلقت ـــ سيئة الذكر ـــ كونداليزا رايس وزيرة خارجية أمريكا السابقة شعار ''الفوضى الخلاقة''، وهذا الشعار هو الترجمة المعاصرة لمبدأ ميكافيلي الشهير، فالفوضى التي رمت إليها ما هي إلا وسيلة لا أخلاقية للوصول للهيمنة على المنطقة من خلال تحويلها لكيانات متصارعة متناحرة للسيطرة على مقدراتها وفق المبدأ الاستعماري البريطاني ''فرق تسد'' المرتكز هو الآخر على المبدأ الميكافيلي، وهو ما طبق تماما وحرفيا في العراق حين تم تفريقه بصراعات طائفية وعرقية ومذهبية ما زال العراق يعاني منها حتى اليوم.
ما ساعد وسوف يساعد على نجاح غايات الآخرين هو أننا حولنا تنوعنا الطائفي والعرقي والمذهبي لأدوات صراع لا تتوافق مع قيمة التعايش نتيجة سيطرة خرافة عقد تاريخية نسجتها الرواية غير الموثقة والتي لم نستطع التخلص منها بالرغم من زعمنا التطور والتعلم والتحضر الثقافي، حيث حولناها لبؤر صراع دائم كانت دوما جاهزة للاستثارة، وبيئة صالحة لأعدائنا بوضع أصابعهم لتحريكها بالفتن والصراعات والاقتتال، وهذا حادث بوضوح تام في العراق وإلى حد كبير في لبنان وبقدر أقل في اليمن، وإذا لم ينتبه البقية فالحبل على الجرار، وما يجري في ليبيا اليوم شاهد آخر وحي علينا فهمه واستيعابه ودراسته حتى لا نقع في مستنقع الفوضى ''اللاخلاقة'' والتي سوف تؤدي لغاية تقسيم الدول العربية، والذي هو هدف صهيوني لجعل كيان العدو الصهيوني السيد الأكبر في المنطقة، ومن يحلل أسلوب التدخل الغربي وأدواته، وخصوصا عبر حلف الناتو في ليبيا، سوف يدرك أنه الإصبع الذي يريد اللعب في وحدة الشعب الليبي، فمنذ متى يقدمون خدمات إنسانية مجانية ..؟!
3- الملاحظ في الأحداث التي يشهدها عالمنا العربي بدءا من تونس، بروز مطلبين يبدوان في الظاهر أنهما على نقيض بعضهما البعض، بينما هما متكاملان في واقع الأمر، المطلب الأول الإصلاح الذي رفعته الشعوب عبر أيقونة ''الشعب يريد إسقاط النظام''، قابله مطلب النظام بالاستقرار والأمن والتحذير من نتائج الفوضى، وكلاهما صادقان، فالشعوب طالبت بإصلاح جوهري بعد عقود من الجمود تجذر فيها التسلط بدل السلطة، والنظام رد بالتخويف من عدم الأمن والاستقرار، لكنه تحذير قصد منه استقرار وأمن النظام.
الأمن والاستقرار لن يتحققا إلا بالإصلاح الحقيقي والشامل، وهنا يكمن التكامل بينهما، أما وضع الفوضى بديلا للإصلاح فهو الخطيئة الفادحة التي ستؤدي إلى الانفجار والفوضى كلما كان أمر الإصلاح عصيا وصعبا، فالإصلاح هو الضمان الأقوى للاستقرار والأمن الذي سيقطع الطريق على تآمر الخارج، كما أن مطلب الإصلاح بات جديا وقضية لا رجوع عنها مهما ظن أنها مجرد ظاهرة ستفرغ شحنتها ثم تضمحل.
إن كل مواطن مخلص وعاقل يرفض الفوضى ومستعد للدفاع المستميت من أجل الاستقرار والأمن والأمان، لكنه في الوقت نفسه مستعد للدفاع عن مطالبه الإصلاحية لآخر مدى، فعقارب الساعة لا تعود للوراء، فضلا عن توقفها عند زمن معين، فالأوطان لا يحميها الأمن فقط، بل تحمى بشعور المسؤولية والانتماء الحقيقي والآفاق المفتوحة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي