احتراق أطراف أبرز المرشحين لرئاسة مصر!
ليس بالضرورة أن يكون الاحتراق حرفيّاً، بل هو إيضاح لمفارقة سياسية كامنة في مجاهرة أبرز مرشحين لمنصب الرئاسة المصرية (موسى، البرادعي، نور، بسطويسي، الأشعل، وصباحي) برفض التعديلات الدستورية، فيما اقترع الشعب لمصلحتها بنسبة تفوق 77 في المائة! الحصيلة هي أن المرشحين يسبحون عكس التيار العام، فمن أين جاء الخلل؟ وهل يعني ذلك أن "الحصان الأسود" في السباق الرئاسي لم يظهر بعد؟ هناك أقاويل عن نية الدكتور الجنزوري خوض المنافسة، فإن صدقت، ستحدث بعثرة حقيقية لكل الأوراق. ويبقى السؤال: ما العمل لتفادي تحول الحاصل بروفة للانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة؟
الخيار بين المونولوج والديالوج
المرشحون الخمسة راهنوا على مناجاة تصورات دوائر النخبة، فكان ذلك على حساب الحوار مع أعرض فئات الشعب المصري، لمعرفة اتجاهات الرأي لديها، فالمرشح الحقيقي هو من يبني برنامجه على أساس تكييفه وفق تطلعات الشعب، لا العكس.
لقد كان المرشحون ـــ للإنصاف ـــ رفيعين في التحليل، على أن التحليل المنطقي قد يكون مثالياً وينتهي إلى قياسات صورية أجنبية بالكامل عن الواقع. لقد نجحوا في امتحان تجويد التحليل لكنهم سقطوا في امتحان اتخاذ الموقف!
الكتلة الحرجة والقصور الذاتي
يلعب الشباب ـــ خاصة في مجتمعاتنا ـــ دور الصاعق في تفجير الانتفاضات، وهو وضع طبيعي، لأن هذه الفئة من الشعب تمتاز بخواص الوعي والأفق العريض والحماس النبيل، مع التفرغ أو التحرر من التزامات الحياة المادية اليومية، لكن الثورة لتنجح لا بد من انضمام نخب المثقفين والنقابات المؤثرة إليها، لأنها تمنحها الوهج والألق وتضع لها خريطة الطريق، ثم تأتي الأغلبية الصامتة التي لا تمارس السياسة إلا في منعطفات تاريخية لتصنع الحياة الجديدة، ولتلعب الدور الحاسم في نجاح الثورة، إنها الكتلة الحرجة في الثورة عموماً، وفي مصر: الفواعلية وعمال الترحيلة وفقراء المدن والمهمشون عموماً. لقد كانت أطياف الشعب المصري حاضرة كلها في ميدان التحرير، بما لا يتيح مجالاً لتسمية الثورة إلا باسم الشعب المصري كله، مع حفظ "الحقوق الفكرية" للشباب في تفجيرها.
على أن علم الفيزياء الذي قدم لنا مفهوم الكتلة الحرجة The Critical Mass أمدنا بمفهوم أخطر ألا وهو القصور الذاتي Inertia، فإذا كانت الكتلة الحرجة هي القطب الإيجابي في انتصار الثورة، فإن مجتمعاتنا لظروف هيكلية (تاريخية وموضوعية) تفتقر إلى مؤسسات دستورية هي بمثابة كفيل شرعية الكيان (الوطن زائد الدولة) أو ما يشار إليه بـ Establishment ولدى البعض أو في فترات سابقة بـ Authority عدا الجيش (في بريطانيا هناك التاج، البرلمان، الصحافة) وقس على ذلك الولايات المتحدة، حيث (الكونغرس، الصناعة، الواسب... إلخ).
الجيش يلعب في مجتمعاتنا دوراً مزدوجاً، فهو يصادق على انتفاضة الشعب ويحميها، ولكنه في الوقت نفسه لا يسمح لها بإعلاء سقف برنامجها، لأن ما يعنيه هو الاستمرارية أكثر من التغيير.
في مقولة أخرى، الجيش معني بالأمن القومي للدولة وليس بالنظام السياسي الذي سيتولّد من الثورة، فذاك شأن الشعب.
جنرالات وكولونيلات الثورة
القائمون على السلطة في مصر من الجنرالات، وهم عادة أكثر تسامحاً ونزاهة وزهداً في السياسة والحكم، وقد أرادوا الإسراع بتسليم السلطة إلى الشعب، وفقاً لتصوراتهم المحافظة والتقليدية، ومع ذلك فإن نموذج حكم الجنرالات أفضل بما لا يدع مجالاً للشك من نموذج حكم الكولونيلات (صالح في اليمن والقذافي ليبيا، ما زالا يصارعان من أجل البقاء في الحكم، بعد أكثر من 30 و40 عاماً، على التوالي) وقس على ذلك. لو أن من يحكمون مصر الآن من الكولونيلات، لانتهى بهم الأمر إلى التسويف وحلول أحدهم زعيماً مؤبداً.
في فهم الجيش
من المثالية أن يتصوّر الساسة ناهيك عن أن يطالبوا الجيش بأفق مماثل في التحليل أو تلك الخصوبة في الخيال السياسي.
لقد طرح الجيش جملة من التعديلات هي مكسب مقارنة بحقائق الموقف على الأرض وما تكشفه من موازين القوى. القوى السياسية في مصر في موضع يفرض عليها العمل بمبدأ: خُذ وطالب، خذ المتاح وطالب أكثر.
هل النتيجة انتصار للإسلاميين؟
ليس قطعاً، لكنه يمكن أن يتحول إلى انتصار ساحق لهم، طالما ظلت القوى السياسية الأخرى تاركة الساحة لهم لاحتكار تفسير الدين. الحقيقة أن المادة الثانية من الدستور المصري لعبت دوراً كبيراً في تكييف اتجاه الشعب المصري في الاقتراع بـ "نعم"، على الرغم من أنها ليست مطروحة أصلاً ضمن التعديلات.
من الغريب أن تفادي ذلك يتطلب عملاً كبيراً من المسلمين والمسيحيين معاً، كي لا تبدو الصورة السطحية لنتيجة الانتخابات وكأنها "نعم" مسلمة و"لا" مسيحية إن لم تكن معادية للإسلام، فتلك رؤية لا تمت إلى الحقيقة بصلة.
المرشحون الخمسة بحاجة إلى النقاش حول المادة الثانية يقربهم من الشعب، فهي تتعلق بالهوية الحضارية، ولا ينبغي أن تكون عامل فرز وطني ناهيك عن أن تتحول إلى مادة لشق الصف، فهي لا تتعلق بالمساواة وحقوق المواطنة، بل وينبغي أن توظف لمصلحة التعايش والتسامح. في المقابل، على النخبة السياسية القبطية انتزاع حقوقها المدنية من الدولة ومن الكنيسة معاً، بالانخراط الكامل في الحياة السياسية المصرية فليس للكنيسة (أو الأزهر) سوى دور روحي في الرعاية، لا أن تمارس دوراً سياسياً بالنيابة عن الأقباط (كانت الكنيسة الأعلى صوتاً في تأييد التوريث، مع أن ذلك موضوع "علماني" محل خلاف شديد ضمن الأقباط). في تقاليد مصر، كان هناك المجلس الملي الذي يتولى الجوانب المدنية المتعلقة بالأقباط.
تجنب ذلك، من شأنه الدفع التلقائي نحو مزيد من الاستقطاب الديني غير المبرر، فهو لا يخدم سوى الإخوان ولربما اتجاهات دينية على يمين الإخوان.
ما العمل؟
القوى السياسية المصرية الطامحة إلى تجسيد مفهوم الدولة المدنية، مطالبة بأن توحد صفوفها وأن تبدأ ذلك بنبذ نرجسية النخبة، فأحزاب الغد والجبهة الديمقراطية والوفد محسوبة على التيار الليبرالي، فما الذي يحول دون انتظامها في جبهة عريضة؟ وقس على ذلك بقية القوى والتيارات الوطنية والقومية والاشتراكية.
يبرز في بر المحروسة اليوم قطب إسلامي واسع، يحتل الإخوان موضع القلب منه، فليس في النظام الليبرالي مجال لعزل أي قوة سياسية، بيد أن على بقية التيارات السياسية البحث عن المشتركات لتكوين أقطاب مماثلة تتيح لها تمثيل مكونات الشعب المصري بصدق، وهو ما لن يحدث إلا بالترفع عن الخلافات الثانوية، فالواقع هو أن خلافات تلك القوى التي لا ترقى إلى حد التناقض، تضر بها أكثر مما يلحقه بها خصمها السياسي الإسلامي.
الحل أبسط ما يكون: مزيد من الاقتراب من هموم الناس، يصنع الفارق ويقلص الفجوة. لقد ظل خاسرو الاقتراع يصدحون بالطلاسم القانونية الدستورية البعيدة عن فهم سواد الناس، بل والمبالغة في طلب مد الفترة الانتقالية على المخاطر الكامنة في ذلك، فبادلهم الناس انصرافاً بانصراف.
لا يكفي القول: لقد قبلنا بحكم الشعب، فذاك من البديهيات التي لا يناقشها السادة، فالمطلوب هو تعلم الدرس واستخلاص العبرة، كي لا تتكرر النكسة وتتدهور إلى هزيمة ليس للقوى السياسية فحسب، بل ولتجربة ديمقراطية متوازنة ناجحة، لتكون مثالاً يُحتذى ويُقتدى به في بناء نموذج الحرية والعدل وطنياً وإقليمياً، مثلما كانت الثورة فيها مثالاً لهدم حكم الاستبداد والفساد، ففي ذلك النجاح تكمن معاني جدوى الثورة وقيمة التغيير وثمن الفداء والوفاء للشهداء.