قطاعنا الهندسي في مهب الريح
شهد الأسبوعان الأخيران عددا من الأحداث المتعلقة بالقطاع الهندسي في المملكة, هذا القطاع الذي يعول عليه الكثير في إدارة مشروعات التنمية الكبرى التي وضعتها الدولة في أولوية خطط وبرامج التنمية, وخصصت لها مبالغ طائلة في سبيل تحقيق الرخاء والرقي لمواطني هذا البلد. الموضوع المشترك بين كل هذه الأحداث كان قضية الكادر الهندسي الذي طال الحديث حوله دون أن يجد حتى الآن آذانا صاغية تمنحه ما يستحقه من اهتمام, وتنظر إليه بما يستحقه من جدية. الحدث الأهم بين كل تلك الأحداث كان ذلك التجمع الذي قابل فيه عدد من المهندسين وزير الخدمة المدنية أمام مبنى الوزارة, ووجهوا له مطالبهم حول الكادر بشكل مباشر، علهم ينجحون في لفت الانتباه إلى معاناتهم التي طال بها الزمن.
طلب الوزير من المهندسين عرض الأمر على جهات عملهم، مع أن تلك الجهات لا تملك أي سلطة للتعاطي مع هذه القضية. كما أنه أبلغهم بأن الموضوع عند عرضه على مجلس الخدمة المدنية واجه رفضا واعتراضا من اثنين من الوزراء، ولم يقم بتسمية هذين الوزيرين. الوزير أيضا رمى الكرة في ملعب الهيئة السعودية للمهندسين, وأبلغ الحضور بأن الملف سيعاد إلى الهيئة للنظر فيما سجل حوله من ملاحظات حتى يمكن إعادة عرضه على المجلس على أمل الحصول على موافقة ذينك الوزيرين. ولأنني أعلم علم اليقين أن الهيئة قامت بجهود مضنية لدفع هذا الملف والحصول على اعتماد مجلس الخدمة المدنية له, فإنني أتساءل هنا عما إذا كان هذان الوزيران المعترضان يعلمان حجم الخطر الذي يحدق بالقطاع الهندسي ومشروعات التنمية من جراء التعطيل لهذا الملف الحيوي. وهل أتى اعتراضهما استنادا إلى وجهات نظر تتعلق بما يحمله اعتماد هذا الكادر على ميزانية الدولة من أعباء ليقفا موقف المدافع عن المال العام, أم بناء على وجهات نظر أخرى غير مفهومة؟ إن أبسط حقوق أولئك المهندسين يتمثل في معرفة الأسباب الحقيقية وراء تعطيل تمرير هذا الملف وما يواجهه من اعتراض, في الوقت الذي يسبب هذا الموقف حالة من انحسار الإقبال على الانخراط في القطاع الهندسي في ظل هذه الحالة من الإحباط في هذا الوسط.
وإذا علمنا أن عدد المهندسين العاملين في المملكة يبلغ نحو 140 ألف مهندس, يمثل السعوديون منهم أقل من 20 في المائة, وإذا علمنا أن العدد الإجمالي لخريجي كليات الهندسة في جامعات المملكة كافة لا يتجاوز ألفي خريج في السنة، لعلمنا كمّ الخطر المحدق بهذا القطاع وبمسيرة التنمية في المملكة. كم أشعر بالأسى عندما أرى هذه المشروعات الكبرى يتم إنجازها بأيدي الوافدين في القطاعين الحكومي والخاص, يخرجون منها وقد شحذتهم بالمهارات والخبرات, والمهندسون السعوديون غائبون عن هذه الورشة الكبرى. حتى شركات المقاولات والمكاتب الاستشارية التي تقوم على هذه المشروعات لا تقدم أي مساهمة جادة لإشراك المهندسين السعوديين في هذه الأعمال, وتستند بشكل كاسح إلى المهندسين الوافدين. وحتى المشروعات الكبرى التي تطرحها الجهات الحكومية يتم توجيه الدعوات فيها إلى شركات أجنبية دون إلزامها بأي شكل من أشكال التضامن والتعاون مع الكيانات المهنية والهندسية المحلية لضمان نقل الخبرة وتوطينها. وفي المحصلة, فإن هذا الحجم الهائل من الاستثمار في التنمية يفقد أحد أهم عناصر نجاحه المتمثل في الارتقاء بقدرات المهندسين السعوديين والشركات المهنية والهندسية المحلية, وهي لعمري خسارة وأي خسارة, لا أدري إن كان الوزيران المعترضان يعلمان مقدار مسؤوليتهما عنها.
اجتماع الجمعية العمومية الأخير للهيئة السعودية للمهندسين, كما في كل الاجتماعات السابقة, شهد حديثا صاخبا حول ملف الكادر الهندسي. ومع أن الهيئة هي الجهة التي يفترض أن تكون مسؤولة عن القضايا كافة المتعلقة بهذا القطاع, إلا أن تحميلها منفردة مسؤولية تعثر هذا الملف أمر يجانب الصواب, ليس فقط لأن الهيئة قامت بما يمكنها القيام به لتحقيق هذا الهدف, فالمطلوب منها أكثر مما بذل. لكن لأن الهيئة في الحقيقة لا تتمتع بالقناعة والموثوقية من الأجهزة الحكومية كافة لتقوم بالدور الذي يفترض فيها القيام به. إننا نشهد كثيرا من الحالات لملفات تحمل كمّا كبيرا من الأهمية تتعلق بالقطاع الهندسي, وتقع ضمن اختصاص ومسؤولية الهيئة السعودية للمهندسين, وتواجه مواقف سلبية من عدد من الجهات الحكومية الأخرى, وليس ملف الكادر الهندسي إلا أحد تلك الملفات. فمثلا, ملف تصنيف المكاتب الهندسية يشهد صراعا بين الهيئة ووزارة الشؤون البلدية والقروية, وملف الاعتماد المهني ما زال يحبو في أروقة عدد من الأجهزة الحكومية التي لم تقتنع بعد بأهمية فرض تطبيقه على منسوبيها من المهندسين, وملف ترخيص المكاتب الهندسية الأجنبية من قبل عدد آخر من الجهات الحكومية في تدخل فاضح في اختصاصات الهيئة ما زالت تلك الجهات تتعامل معه بكثير من التفرد والاستعلاء. هذا الواقع المؤلم لا يشكل أساسا متينا لقيام الهيئة بدورها المأمول كمنظم ومشرع ومراقب لقطاع العمل الهندسي, ولا للارتقاء بهذا القطاع ومنسوبيه لتفعيل دورهم في مسيرة التنمية. إن ما تحتاج إليه الهيئة في هذا الوقت بالذات, وفي ظل ما تشهده من تطور ملحوظ في آليات عملها في هذه الدورة الحالية لجهازها الإداري, هو مزيد من القناعة بدورها في تنظيم ورعاية القطاع الهندسي, وتمكينها من أداء هذا الدور عبر منحها الصلاحيات اللازمة لذلك, ووضعها في موضع القيادة في اتخاذ القرارات المتعلقة بشؤون القطاع الهندسي, علاوة على دعمها بالموارد المالية اللازمة لتحقيق الارتقاء المطلوب بإمكاناتها البشرية والفنية. والنموذج الذي رسمته هيئة التخصصات الصحية في رعاية القطاع الطبي يمكن أن يكون نموذجا يحتذى في حالة الهيئة السعودية للمهندسين, وليس المهندسون على أية حال أهون شأنا من الأطباء, بل إن مسؤولياتهم ربما تتجاوز في أهميتها وانعكاساتها على جودة التنمية متطلبات القطاع الطبي.