ربيع دمشق .. نهاية خريف بيروت
كانت إذا أمطرت سياسياً في ''الشام''، سارع البيارتة إلى فتح المظلات، لكن تبدلت الفصول الآن، والآن فحسب، راح لبنان يتنسّم رياح الحرية الأولى، من فوح ربيع دمشق ويسترد الوعي والروح المتجددة، ليعاود الالتحاق بالعصر، بعد أن كادت نزغة اليأس تدب فيه. لا عجب، فهو طائر الفينيق ليس بالمجاز، بل بحقيقة مهد الجغرافية التي يعتمدها التاريخ.
كارثتا الحرب والاحتلال
جراء القصور الذاتي ''الإضافي'' الذي يكبّل لبنان، منذ دخول القوات السورية إليه ما بعد منتصف السبعينيات، لإنهاء الحرب الأهلية وشن حربها ضد الديمقراطية والحريات، تم شل قواه السياسية بالكامل، وإن نجح ''اتفاق الطائف'' في الحفاظ على الدولة.
ولكن عقب توقيع اتفاق الدوحة، الذي كان ''اتفاق إذعان'' أملاه الزعران في زواريب بيروت، بقوة السلاح على ''السُنّة'' العُّزل بالذات، صارت الدولة نفسها ''رهينة'' لحزب الله، ومن المفارقات أن الرئيس نبيه بري ''صاحب برلمان الشعب'' أقفله بالضبة والمفتاح ذات يوم، وكأنه ''بقالة ملك رقبة''، ولم يفتحه إلا بعد إعلان انتصار الثنائية الشيعية على كل لبنان.
تم استكمال كل ذلك بمسرحية صورية، أخلّت بروحية كل المواثيق اللبنانية بعد حين، باستبعاد زعيم زعيم الأغلبية البرلمانية، وزعيم الطائفة السنيّة الرئيس سعد الدين الحريري من رئاسة الوزارة، والإتيان بمن خان على طريقة ''يهوذا الأسخربوطي'' ليرأس الوزارة، نكاية في الطائفة المرعوبة من ''سلاح المال الطاهر''!
كان الجنرال عون وفريقه، يقولون إن الرئيس ''الماروني'' يفرضه المسلمون وليس المذهب الماروني أو الطائفة المسيحية، متناسين أن الرئيس اللبناني ''حكم مفرد'' بين كل اللبنانيين، أما رئيس الوزراء فهو ''مُقدم بين أنداد''Primus entre Pares.
لم تجد الشبيبة في لبنان ما يمكنها أن تسهم به في ربيع ثورة العرب، سوى المطالبة بإنهاء النظام الطائفي في البلاد، فليس في الإمكان أبدع مما كان، وحزب الله يوزع صكوك الغفران. لكن سرعان ما جاءت عدالة السماء من حيث لا تحتسب الشبيبة ولا يحتسب المحلل السياسي: مدّد، ومن أين؟ من الشام، شدّي حيلك يا بلد، كما قال الشاعر.
سورية تدفع ثمن فاتورة لبنان
قُتلت الصحافة اللبنانية التي كانت ذات يوم نافذة سورية نفسها على العالم، بمصادرة السياسة في لبنان منذ الاحتلال السوري، ثم شبعت موتاً بعد الضم الكامل للبنان إلى حوزة ولاية الفقيه ''المعصوم''، والعصمة لا تجوز إلا لنبي!
أين لبنان والعرب من صحافة سعيد فريحة وبعكوكته؟!، وأين هو من صحافة ''النهار'' المستمر، يوم هلل داهية التحبير غسان تويني لانتصار الرئيس فرنجية على المرشح الشهابي سركيس بصوت واحد: ''الصوت الواحد صوت الشعب''! لقد خلّدته العبارة في ذاكرة الصحافة السياسية العربية، رغم أنه استعارها من فرنسا عندما انتصر البرلمان الفرنسي لصالح استمرار الجمهورية وعدم العودة إلى الملكية، عقب الأطوار الكثيرة التي دخلتها فرنسا عقب الثورة البورجوازية، قبل الاستقرار كدولة. أين المعارك البرلمانية، مثل تلك التي لا تُنسى عندما انتصر نجاح واكيم على نسيم مجدلاني في دائرة الروم الأرثوذكس في بيروت! ذهبت مع رياح العسكر!
جاك الدور يا دكتور
هكذا خط الصغار و''شخبط'' الصبيان على الجدران في درعا، وكانوا يعنون به الرئيس بشار الأسد، ومنهم من خطها ''يا ديكتاتور''، فما فعل الدكتور.
أطل على الناس عبر البرلمان، واثق الخطوة، وتحدث بكل عدم اكتراث للشهداء والضحايا، فهو لا يدرك ما يجري حوله! ما ظلم، فهل أدرك من قبله بن علي أو مبارك ما كان يجري، ناهيك عن الرئيس علي صالح الذي يصر على أن هذا الجسر الهائل قد بُني فحسب، كي تمر من تحته الأمواج الهادرة، الهاتفة بحياته!
المطالب سياسية يا سيادة الرئيس
ما زال الرئيس يتحدث عن إلغاء قانون الطوارئ وإحلال قانون الإرهاب، وكأن قانون الطوارئ في واق الواق، وكأنه لا يملك إلغاءه بجرة قلم. لقد جاء إلى الحكم بجرة قلم، بدلت وبهدلت الدستور كي يتم نصبه رئيساً و''كله عند العرب صابون''. فلم يجرجر قدميه في شأن ذلك الإجراء؟
لقد تجاوز سقف مطالب الشعب بكثير، يا سيادة الرئيس، وإليك جدولاً مختصراً بالإصلاحات التي يطالب بها الشعب السوري:
- إعلان سيادة الشعب السوري على أرضه، بإطلاق الحريات المدنية كافة.
- إلغاء هيمنة حزب البعث غير المبررة على الحياة السياسية في البلاد.
- تشكيل حكومة انتقالية للوحدة الوطنية تمثل القوى والفعاليات والحساسيات السياسية في سورية.
- إطلاق قانون جديد للجمعيات المهنية والنقابات العمالية.
- الدعوة إلى انتخابات برلمانية جديدة لانتخاب ممثلين للشعب السوري، ضمن فترة انتقالية أقلها ستة أشهر، وأقصاها عام ميلادي، كي يمارس المجلس المنتخب دوره الرقابي البرلماني على القوانين كافة وعلى رأسها الموازنة العامة من جهة، فيما ينهمك في لعب دور موازٍ كجمعية تأسيسية تضع دستوراً جديداً تستحقه سورية وأجيالها، ينفتح على عصر حقوق الإنسان والحريات ويواكبه.
هذا أو الطوفان
في خطابه الأخير، بدا الرئيس مصالحاً، والصلح خير، ولكن كالعادة كان السقف قد ارتفع كثيراً، بقدر انهمار الدماء. كانت سورية عبر التاريخ، قلب العروبة النابض، ولم يسبق لها أن صدحت بالطائفية. لكن الرئيس حافظ الأسد هو من أضرّ ليس بسورية كلها فحسب، بل بالذات بالطائفة العلويّة، عندما أصرّ ـ وهو الذي جاء إلى الحكم، على أكتاف ضباط سُنّة بالذات ـ على توريث الحكم لأخيه رفعت ثم ابنه باسل بعد احتراق أوراق شقيقه المتهور صاحب السرايا. عقب وفاة باسل، كان اختياره لبشّار. ليست هناك طائفة تنتصر على الشعب كله، وليس هناك نظام يقهر حركة التاريخ، ومن صالح سورية تفهم نظام الحكم فيها الآن، أن الحلول الأمنية القمعيّة لا تجدي فتيلاً، في مواجهة المطالب والتحولات السياسية.
بوسع الرئيس بشّار تلبية مطالب الشعب السوري، ليتحول إلى زعيم يحفظ له التاريخ دوره في الحفاظ على الوحدة الوطنية، وتقديمه الوطن على الحكم والشعب العريض على الطائفة الضيقة، فيضمن استكمال فترته الرئاسية على الأقل. أما إذا ما راهن على الوساوس الطائفية وغرور امتلاك السلاح، فإن مصير كل نظام يُصر على إعمال السيف في رقاب الشعب ليدوم، يكتب لنفسه الفناء ولو بفعل دابة الأرض، وإن طال الزمن.
هذا يعني أن إعادة تشكيل الحكومة في لبنان، قد عادت إلى المربع الأول، والعزاء فحسب في أن الشعب اللبناني وقواه الحيّة، بدأت تتنفس الصُعداء وإن بحساب، في ظل ''الدركي'' الذي يحول بينها وبين التشفّي. هل بوسع تيار المستقبل، والمعارضة اللبنانية كلها تحريك فرد واحد ضد النظام في سورية؟ وهي التي لا تقوى على تحرّيك ساكن ولا تبدّيل قائم في لبنان؟
سورية التي دحرجت جبل ''جنبلاط'' من ضفة إلى أخرى! أكبر من أن تقوى عليها كل حجارة لبنان. سورية لا يقوى عليها إلا الشعب السوري. وكما قال الشهيد رفيق الحريري: ما في حدا أكبر من بلده.
صحيح أن لبنان أسير نظام طوائف، لكن ذلك نتاج اتفاق تحوّل إلى وفاق، لكن سورية تحولت إلى نظام طائفي فعلي ''دي فاكتو'' بامتياز، لا يدانيه إلا نص الدستور الإيراني ''دي جوري'' في ذلك.