عودة «العظمَة» إلى سوريّة
حتى الأمس القريب، كان مجرد نطق لقب ''العظمة'' ينصرف فوراً إلى الفنان ياسر العظمة صاحب ''المرايا''. لا غرو، لأن تأميم السياسة في سورية وتحريمها تحريم الخمر في الكتاب، قد قطع الصلة بكل التاريخ الوطني الثر، جراء اختزاله في الحزب القائد ثم الرئيس القائد. وبعد سابقة ''توريث الرئاسة'' تم توسيع الدائرة لتنحصر في الطائفة جهاراً.
لم يعد أحد يشير إلى يوسف العظمة بطل ميسلون، ولعل هذا الجيل الثائر في الشارع العربي اليوم، لا يعرف من سورية إلا الرئيسين الأسد، الأب والابن. بيد أن انتفاضة الشبيبة من أحفاد البطل الشهيد في درعا، أعادت يوسف إلى المشهد بالانتساب إليه بسلوكها، رافضة أن تكون سورية استثناءاً بالسلب، وداحضة فرية أنها عكس تونس ومصر وليس مثلهما، فبرهنت على أن الشعب السوري يتوق مثل كل شعب إلى الحرية، وأنه على استعداد لدفع مهرها ليستحق الحياة.
لم يعد أحد يتذكر الشهيد عبد الرحمن الشهبندر ناهيك عن ابراهيم هنانو، أو يذكر شكري القوتلي، ولا حتى أكرم الحوراني، ولا أديب نحوي، ولا آخرين كثيرين، فقد كتبت ''الحركة التصحيحية'' نهاية التاريخ في سورية و''بداية'' السياسة فيها في 1970! سورية تدخل التاريخ بسابقتين: أنها أول من أعلن ''الجمهورية'' في التاريخ العربي، بعد سقوط المملكة العربية التي كان يرأسها الملك فيصل الهاشمي مطلع عشرينيات القرن الماضي، وأول من يسدد طعنة نجلاء إلى مفهوم الجمهورية بـ ''التوريث الرئاسي''، الذي تم ذبحه من الوريد إلى الوريد بفضل الثورة المصرية المجيدة.
سورية قبل الأسد
عانت سورية طويلاً عدم الاستقرار عقب الانفصال عن مصر في 1962، ولكن في 1965 جاء الثلاثي ''التقدمي'' أو الدكاترة: نور الدين الأتاسي، يوسف زعين، وابراهيم ماخوس إلى السلطة، وكان من ورائهم اللواء صلاح جديد، بعد الإطاحة بـ ''الحرس القديم''، وتحديداً الفريق أمين الحافظ ورئيس الوزراء صلاح البيطار، علاوة على الرفيق المؤسس ميشيل عفلق.
كان حكم الثالوث في العلن، لكن الصراع كان على أشده، بما يفوق ضراوة صراع الضباع في الجحور ما بين العسكر، صلاح جديد على رأس فريق، وحافظ الأسد على رأس الآخر، وقد نجح الفريق الأسد في حسم الصراع لصالحه، في النهاية.
الحركة «التصحيحية»
هذا هو الاسم الرسمي للانقلاب الذي قاده الفريق حافظ الأسد على حكم الثالوث ومن خلفهم اللواء صلاح جديد، رجل النظام القوي. جاء الفريق الأسد بالسيد أحمد الخطيب رئيساً للدولة وتولى رئاسة الوزراء، فيما كان يجري ترتيب الأوضاع لتسلمه الحكم. يومها، تم تجاوز العرف السوري بتكريس منصب الرئاسة لمن ينحدر من الطائفة السنيّة، باعتبار أنها تمثل السواد الغالب من الشعب، وإن سجلت درعا بالذات، تحفظها على تجاوز ذلك العرف التليد، بما راوح بين الاستغراب والانصراف. تم تنظيم الاستفتاء على رئاسة الجمهورية وكانت النتيجة معروفة مسبقاً.
الجبهة الوطنية التقدمية
كان هذا هو التحالف العريض الذي ظل الحزب القائد ''البعث'' يحكم باسمه سورية، لكنه كان يحكمها بمفرده فعلياً.
كانت الغاية السياسية من وراء هذا التحالف، الإيحاء بأن الوضع لا يمثل حكم الحزب الواحد، وأن الحكم مسنود بقاعدة جماهيرية عريضة تتجاوز البعثيين، لتشمل كل التقدميين في سورية، فيومها كان للفكرة التقدمية رواجاً عظيماً على غرار ''موضة'' الهوس بزعم الانتماء إلى الليبرالية اليوم، حتى من قبل من كانوا حتى الأمس القريب أشدّ ''حُمرةً'' من الدم!
لكن الجبهة الوطنية التقدمية، لم تزد عن كونها منظمة ساتر، بدلاً من أن تسهم في قيادة الحكم، انتهت إلى بلقنة الأحزاب المشاركة فيها، فقد انقسم الحزب الشيوعي والاتحاد الاشتراكي والوحدويين بل وكل التيارات المشاركة فيها، إلى فصيلين أو أكثر، وإن كان هناك من رفض خدعتها منذ البداية: شيخ المناضلين في سورية رياض التُرك أو مانديلا العرب، كمثال، فقد قضى ربع قرن في سجن الأسد الأب. وتحولت الجبهة إلى مجرد كومبارس، في ظل بطش سرايا رفعت الأسد، وتطييف السياسة السورية.
من التصحيح إلى التطييف
وقف العسكر السُنة: مصطفى طلاس، حكمت الشهابي، وناجي جميل وقفة الأسد مع الأسد الأب، وخدمه عبد الحليم خدّام خدمة العمر، لكن الرجل بعد تبدد حظ رفعت الأسد شقيقه في الحكم، راهن في ظل الحزب القائد على توريث السلطة لابنه باسل. معنى ذلك أنه كان يعني بالتصحيح التطييف. مات أو قُتل باسل الأسد في ظروف غامضة، فتمت تهيئة بشّار الأسد للمنصب المطوّف. كان باسل الأسد متهوراً في أحلامه مثل سانجاي غاندي وجمال مبارك، فيما كان بشّار الأكبر سناً رزيناً على غرار راجيف غاندي وعلاء مبارك، لكن موت سانجاي وباسل أوصله إلى سُدة الحكم.
ربيع بشّار و''بيروسترويكا'' سورية
بعد 30 عاماً من حكم الأسد الأب، خلفه في السلطة الرئيس بشار الأسد، فاستبشر السوريون خيراً بورشة عمل تم انتظار إطلاقها على طريق التجديد الذي أدخله جورباتشوف بعد فترة الجليد الذي شل أوصال السياسة في الاتحاد السوفياتي، طوال حكم بريجنيف الطويل. بدأت إرهاصات إصلاحات سطحية وعلى الهامش، فجاءت محبطة للآمال وسرعان ما انتهى ربيع إصلاحات بشار إلى محض انفراج في الاقتصاد على حساب السياسة. لقد خاف نظام الحكم أو قُل القلة النافذة في الطائفة والأمن، من أن يفضي ''غلاسنوست'' سورية في تأسّيها بالاتحاد السوفياتي أو روسيا، إلى انتهاء حكم الحزب الواحد، فكانت العودة إلى الحكم بالقبضة الحديدية، سجناً ودفعاً إلى المنافي ومباهاة بمصادرة الحريات، وكأن درس التاريخ لم يشر إلى أن جدّة سورية الأولى: آي ''آشوريا'' الإمبراطورية العسكرية، قد ماتت مختنقة وهي في عدّة الحرب.
حُكم الحزب الواحد بات في مزبلة التاريخ، وسورية ليست استثناء إلا بالمعنى الإيجابي، وقد لا تكون هذه هي نهاية الحزب الحاكم فيها، ضربة لازب، لكنه ما عاد بالحزب القائد. لقد تحوّّل فحسب إلى حزب الحكومة، بعد أن انصرفت عنه وكشفته الجماهير، وتلك بداية النهاية الآتية ولو بعد حين، بدفع حراك التاريخ.
ويبقى أن ملخّص خطاب الرئيس السوري أمام البرلمان بشأن الأحداث الأخيرة، هو أن النظام في وادٍ والشعب في آخر، ولعله يريد إسقاط الشعب قبل أن يحدث العكس! الدليل أنه لا يملك أي حلول للأزمة السياسية سوى الأمنية (استبدال قانون الإرهاب بقانون الطوارئ)، في إشهار للإفلاس السياسي بالهروب إلى الأمام، واتهام الخارج فيما يغلي الداخل!. وعش ربيع العرب لتشاهد أو تسمع العجب.