أزمة الرئيس .. أزمة اليمن

في ماضي التجربة الوطنية يكمن حل الأزمة السياسية المتصاعدة اليوم في اليمن، لكن ما يحول دون الاعتبار بها، ناهيك عن الاستفادة منها، هو نمط ''تضخم الذات الرئاسية'' العربيّة. بل هو مرض سيريالي مفاد تشخيصه: لا أزمة في الوطن إذا كان الرئيس بخير، على أن أزمة الرئيس تعني أن الوطن في أزمة! وهي سفسطة تأتي بعلاج بسيط كرهاً، مثل المصلحة: رحيل الرئيس إذاً عن الحكم إن لم يكن عن الوطن.
الرئيس علي صالح لا يقل عن غيره من الرؤساء العرب مثقال ذرة في ذلك، وإن قل من في اليمن عمّن في الشام، فلطبيعة الجغرافيا وتطبيع التاريخ.
الرئيس العربي المعاصر لا يرى في نفسه إلا ''مالكاً'' للوطن وليس حتى ملكاً عليه، وما الشعب إلا مجرد ''مماليك''! ومن أجل أن يصفو له الوطن عزبةً خالصةً، لا ضير من إزهاق الأرواح بالعشرات أو بالمئات، مهراً لفقه الكرسي وإملاءات فن البقاء عليه، بمشورة البطانة إيّاها.

درس السلال مفجر الثورة
عندما انسدت الآفاق أمام تجربة الحكم في اليمن منتصف ستينيات القرن الماضي، لم يجد مفجر الثورة اليمنية عبد الله السلال بُداً من إخلاء الساحة السياسية. كانت الحرب قد بلغت المدى ما بين القوات الجمهورية الحاكمة باسم استمرارية الثورة، والقوات الملكية المناوئة باسم الإمامة من أجل استرداد الملكية.
صحيح أن الخلفية التاريخية الإقليمية ممثلة في الوفاق الشهير بين الملك فيصل والرئيس عبد الناصر، قد وضعت آنذاك القاعدة المادية الصلبة لاتفاق جدة الشهير من أجل المصالحة اليمنية، على هامش الوفاق العربي. لكن من الواضح من واقع اليوم، أن مجلس التعاون الخليجي، كثقل بديل وحيد، قدير وجدير، قد ارتقى إلى مستوى التحديات الاستراتيجية الإقليمية المحيطة الراهنة وانعكاساتها الوخيمة، فطرح مبادرة سياسية صلبة من أجل اليمن، تجاوز بها الدبلوماسية الناعمة، وبالتالي أوجد نفس تلك القاعدة المادية القادرة على ضمان صفقة سياسية من أجل انفراج الأزمة في اليمن. لكن الرئيس صالح غير الرئيس السلال، فقد كان الأخير وليد عصر لم تُغرس فيه بعد نبتة الديمومة في الحكم، المرويّة بسراب التوريث. وهل يزحزح التوريث الطغاة عن لهيب غضبة الشعب، أو يضمن لهم الخلود؟ هيهات.

هل حل الطوفان بعد السلال؟
منطق كل مسؤول عربي يجلس ''كالوزر على كرسي الوزارة!'' كما قال الرصافي هو: أنا ومن بعدي الطوفان Apres moi la deluge. غير صحيح، لم يأت الطوفان بعد رحيل المسيح عليه السلام أو المصطفى خاتم المرسلين، فكيف تحكمون؟. وفي حالة اليمن بصراحة، لم يحدث الطوفان بعد رحيل السلال. ما حدث هو أن ''حكماء اليمن'' من الإرياني إلى البيضاني مروراً بالنعمان، تولوا الحُكم الذي جّسد الوحدة الوطنية للبلاد، وتنادى خيرة أبناء اليمن من كل مكان، من العيني إلى العمري وغيرهما، بالعودة إليه لتولي الحكومة وإعادة البناء بإزالة ركامات الهدم جراء الصراع الطويل، ومن أجل التنمية، فهل بات اليمن الولود عاقراً عن إيجاد الحكماء أم أفلس عن تقديم الخبراء؟ لم تنعدم الكفاءات الوطنية اليمنية في الوطن أو في الشتات؟ خذ حتى الأمس القريب، عندما اختار رئيس الوزراء غانم الانسحاب، لاستحالة إنزال الإصلاحات على أرض الواقع، وقد كان بإمكان الرئيس دعمه، لولا اختلاف الحسابات السياسية الضيّقة.

التسويف يصادر الحل
الصحافة الغربية تبرع في وصف الرئيس اليمني بأنه من خيرة من يجيدون فن البقاء في الحكم، عبر سياسات الاسترضاء والتوازنات، وهي سياسة مكيافيلية نافعة مضرة طالما سكت عليها الشعب، ولكن متى ما خرج ضدها، ناقصاً أن يشهر السيف في وجهها، يصبح من الخطر المماطلة في التمسك بها، أو استبدال كسب الوقت بها، فمن الواضح أنه كلما استمر عدم التوصل إلى التوفيق بين الثائرين السلميين وبين نظام الحكم، ارتفع سقف المطالب من إصلاح النظام إلى إسقاط ''المعبد'' على من فيه، على طريقة شمشون. تلك لعبة خطرة، فما المعبد هنا إلا الوطن العزيز، وليس هناك من ضحية متوقعةً إلا الشعب الكريم.
حصيلة اليمن اليوم، بعد أكثر من 30 عاماً من حكم الرئيس صالح هي في التحليل النهائي:
1- حرب كامنة قد يعاود شنها الحوثيون.
2- مثابة لـ ''القاعدة'' ومن لف لفها من الإرهابيين.
3- حراك جنوبي مطالب بالانفصال، قد يجد التعاطف إن لم يكن التأييد.
وأخيراً أكبر منجزات النظام: أي الديمقراطية، في ظل مهددات الوحدة بسياساته وتزعزع السلام بمساوماته وتعثر التنمية بتخبطاته! ليس هناك ما يهدد مفخرة منجزات نظام الرئيس علي صالح في التعددية والحريات السياسية وحقوق الإنسان، وغيرها من المزايا المدنية الهائلة نسبيّاً بالمكيال العربي، إلا تشبثه بالسلطة. لقد وضع كل ذلك بالإصرار على ''الدستورية'' وما إليها من المشتقات، على مهب الريح.
يا سيادة الرئيس، ليس هناك دستور، ناهيك عن دستورية مستمدة منه، تتيح البقاء على الكرسي طوال عقود، وإلا صار عرش بلقيس.
لكن يمن اليوم غير يمنها، وقد خرج الشعب إلى الشارع وامتلكه بهتاف واحد: لا بد من صنعاء! ولا وصول إليها إلا بالرحيل، على أنه هنا رحيل الرئيس وليس الشعب، بالطبع. لا يهم هنا أي صورة سيتخذها الرحيل، هل هو بالبقاء معززاً مكرّماً في الوطن أم في المنفى، فالهدف هو الرحيل عن الحكم، ولا بأس من أن تأتي ضمانات الخروج المشرّف مقابل التعجيل به ما أمكن، إن لم يكن على الفور. ارحل من أجل اليمن ولأجل تقليص فاتورة خسائر اليمن الاقتصادية الفادحة، جراء هذا الشلل المستمر، رغم أنها على فداحتها لا تساوي شيئاً مقابل الشرخ في الوحدة الوطنية، إن لم يكن شرخ وحدة تراب الوطن نفسه. ارحل يا سيادة الرئيس قبل الطوفان، فكفى اليمن السعيد تعاسة سيل العرم في سبأ من قبل، وما تمخض عنه من التمزق أيديها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي