نحو مبادرة خليجية ـ تركية معدّلة لإنقاذ ليبيا

لا تضع العربة أمام الحصان وتستحثه على السير قُدماً، حتى لو كان استثناء مثل حصان طروادة. يوم خرج الشعب الليبي إلى الشارع، كان قد أصدر حكمه بحرق الكتاب الأخضر إلى الأبد، وأحال بذلك نظام الجماهيرية القديم إلى مزبلة التاريخ بلا تشييع.
كان الطريق ممهداً لإيجاد تسوية تفرضها وقائع الحراك السياسي الليبي على الأرض، على شراسة تعامل النظام مع الثائرين. لكن الحلول السياسية الوطنية تظل المطلب، ومن بعدها الحلول الإقليمية بيد أن ما حدث في ليبيا هو أن الحلول جاءت من الخارج، وفوق ذلك كانت عسكرية نارية، قلبت الطاولة على الحلول السياسية القريبة والبعيدة، بحرق الأوراق.

من الكتاب الأخضر إلى الكتاب الأسود
رغم صمود مصراتة الأسطوري صمود ستالينغراد، إلا أن الدماء الليبية، بغض النظر عن تلك التي تقف هنا أو هناك، هي الدماء نفسها، ولا ينبغي أن تراق قطرة دم واحدة، طالما في الإمكان حقنها.
لقد أثبتت الهرولة الدولية إلى فرض نظام منطقة حظر الطيران، ونتائج الألعاب والضربات العمياء من الجو، أن المسألة أكثر تعقيداً من الحلول العسكرية بكثير. لقد انكشف التحالف عندما حاولت فرنسا الاستئثار لنفسها بقيادة العملية سياسياً وعسكرياً إلى حد ما. وزاد الانكشاف الآن بالحيرة إزاء ما العمل؟ هل يتم تسليح الثوار أم لا؟ وأخيراً هل يتم الاستعانة بقوات دولية على الأرض؟ لحماية المدنيين!
حذار من لعبة الاستعمار، فلم يخرج الليبيون ودفعوا الدماء مهراً من أجل الحرية، في سبيل استبدال كتاب الاستعمار الأسود بكتاب الجماهيرية الأخضر.

ليبيا محمية أم مستعمرة؟
إذا نزلت القوات الأجنبية على بر ليبيا فهي بكل منطق قوات غازية، ولذلك انعكاساته الإقليمية، خاصة على بلد ذي ثقل وازن مثل الجزائر، التي لا تخفي أصلاً عدم تعاطفها مع ما تراه ''ملاعيب أممية'' تتدخل في الشؤون الداخلية للشعب الليبي، ويفاقم مرارة الموقف الجزائري بروز الدور الفرنسي في التجريدة الدولية، ورائحة التكالب بشراسة على النفط التي تزكم الأنوف. الأدهى أن العملية كما يتزايد الاتضاح قد تنتهي بتقسيم ليبيا، ولفرنسا لُعاب يسيل لأجل اللعبة التي تنتهي بشريط يفك الأسر الجغرافي لمصالحها الاستراتيجية أسفل الصحراء، من يورانيوم النيجر إلى غيره من المعادن في تشاد وغيرها بما في ذلك دارفور، برأس جسر عملاق على البحر المتوسط. لقد دأب الاستعمار على التلاعب بالمصطلحات لتبرير احتلاله أراضي الغير، فمن محميّة إلى مُستعمرة، ومن انتداب إلى وصاية، كُل عن المعنى الصحيح مُحرّف. الغاية تظل هي تقسيم ليبيا على خلفية حرب أهلية أراقت سيلاً من الدماء ودمرت البُنى التحتية والمقدرات، مدنية وعسكرية.

العودة إلى مائدة التفاوض
هل هناك من منظمات إقليمية يمكن أن تلعب دور المساعي الحميدة أو الوسيط أو غيرهما من وسائل التسوية السلمية للصراع بين الطرفين الليبيين المتنازعين: الجامعة العربية بهرولتها إلى تبني القرار الأممي فقدت صدقية التوسط بين الأطراف الليبية، وقد كانت هي الأجدر.
الاتحاد المغاربي، كان في الواقع استنسابياً محكوماً بأمزجة رؤساء دوله، والكيمياء السارية ما بين تلك الأمزجة، التي تحدد مساره وليس ما يخدم الشعوب، وانتهى به الأمر إلى أن يصبح عدمه خيرا من وجوده.
مجلس التعاون «العربي» و«النيتو»
إذا كان النيتو، وهو اختصار ترجمة منظمة معاهدة شمال الأطلنطي North Atlantic Treaty Organization قد أتاح لنفسه أن يصبح ''الشرطي الدولي'' حتى خارج نطاق حدوده المنصوص عليها في معاهدة المُنشأة، بمبرر تحقيق المصالح أو درء المخاطر، فانتشر من أفغانستان إلى ليبيا، فلم لا يُتاح لمجلس التعاون الخليجي بأن يتمدد في مبادراته في النطاق العربي والإقليمي، ليشمل وساطات في نزاعات من شاكلة الحاصل اليوم في ليبيا، بل وفي الصحراء الغربية وغيرهما؟
صحيح أن حالة ''قطر العظمي'' في مواجهة ''الجماهيرية العظمى'' قد شكّلت هروباً فائق السرعة إلى الأمام، فبات ما بين الدوحة وطرابلس على غرار ما صنع الحدّاد. لكن الاستراتيجية تنفي وجود الفراغ الذي يديم انكشاف المصالح ويفاقم مخاطر نشوء المهددات، لذا تنص حركة التاريخ على أنه حتى في حالة حدوثه نظرياً، يتولد تلقائياً ثقل ما ليلعب دور الوتد المثبت للمصالح. والواقع أن الواقع لا يكذب الفرضية.

المبادرة التركية المعدلة خليجياً
حاولت تركيا لدوافعها الاستراتيجية التوسط في الأزمة الليبية، وهو ما أثار غضبة الثوار. على أن المبادرة التركية تستحق النظر فيها، فليس هناك من صراع على هذه الشاكلة من الأهمية، يُتم فيه رفض المبادرات كلها، واشتراط مطالب منطقية قد لا تجد صداها ضمن الحقائق على الأرض، بالضرورة. لا بد في السياسة الدولية من القبول بلعب دولة ما دور ''محامي الشيطان'' عند التنازع، فهي مجرد محامٍ يبحث عن الحل وليس هو نفسه الشيطان، وهو ما حاولت أن تلعبه تركيا. السياسة الدولية بل وكل سياسة هي فن الممكن، وليست فن المستحيل. لا بد من استحضار عقلية الـ Compromise عند انسداد أفق التوافق ما بين فريقين، فالمطلوب هو قطف العنب وليس قتل الناطور.
هناك استعداد بل وبيانات واضحة من ابن القائد القذافي سيف الإسلام، وهو ممثل النظام الحاكم في طرابلس الذي تفرض الضرورة التعامل معه، خاصة أنه قد نطق بحكم الإعدام على الجماهيرية، بقيم مرجعيتها في الكتاب الأخضر، ووثائقها القانونية ومؤسساتها السياسية، أي باختصار: نقل البندقية من كتف والده إلى كتفه، وهي ليست بالنقلة الهينة، لأن معناها هو أن القذافي بات مدركاً للحاصل ومستعداً للخروج المشرّف بدوره من الحكم.
مصر في وضع استراتيجي تلتقط فيه الأنفاس اليوم، من هنا فهي خارج المعادلة الإقليمية وتكلفة وساطاتها، على الأقل الآن. إيران، غير مطلوبة أصلاً في هكذا شأن، ناهيك عن أن فاقد الشيء لا يعطيه. سورية ليست أفضل حالاً، ليس جراء الثورة الطارئة فيها فحسب، بل ولأجل تخصصها في إدارة الصراع في المشرق فحسب (الشام بالمعنى العربي القديم). المغرب، منشغل بنفسه وبقضية نزاع الصحراء وبعده الاستراتيجي في التنازع على الريادة الإقليمية مع الجزائر.
لم يبق سوى مجلس التعاون الخليجي إذاً، فالأقربون أولى بالمعروف والمعروف لسابع جار، علاوة على انتفاء الغرض ونزاهة المسعى والمقدرة على الحراك. مما لا شك فيه أن التدويل على وجه العموم للقضايا يقود إلى التطويل إن لم يكن إلى التمييع. لكن الحلول الإقليمية، على غرار ما حدث في ''الطائف''، هي بالضرورة أقرب إلى الصمود. فلتكرس الدبلوماسية الخليجية الجديدة دورها في المبادرة، بالعمل على المبادرة التركية بشأن ليبيا، بتنقيحها أولاً وضمان المجلس لها وهو الأهم، بما له من ثقل وقبول لدى الثوار في بنغازي، يوازي ثقل وقبول تركيا لدى نظام الحكم في طرابلس، لنقل ليبيا إلى الأمام، ليس على طريقة زنقة زنقة، بل على طريق الديمقراطية إن على مراحل ولو بعد حين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي