الدبلوماسية الموازية أداة مصر لتأمين مياه النيل
في الأفق استكمال مصر لثورتها المجيدة، بثورة على صعيد سياستها الخارجية "المتكلسّة" طوال عقود، تستعيد بها الانفتاح على مجالها الحيوي الإفريقي، بعد موات استمر منذ ما بعد حرب أكتوبر حتى سقوط نظام مبارك.
منذ ما قبل الميلاد وصفها هيرودوت أبو التاريخ بأنها "هبة النيل"، فكيف أتاحت الدبلوماسية المصرية العريقة ومراكز دراساتها الرديفة المحنكة، لصانع قرار السياسة الخارجية، طرد الدائرة الإفريقية خارج أولويات اهتماماتها؟ في الأفق بوادر عودة الروح إلى تلك السياسة بمعاودة الانفتاح، فرئيس الوزراء المصري الدكتور عصام شرف بصدد التطواف على أكثر من عاصمة "نيلية"، لكن ذلك مجرد افتتاحية رسمية لا تكفي وحدها، فلا بد من جهد غير رسمي لكسب معركة العقول والقلوب.
تفعيل دوري الأزهر والكنيسة
عبر التاريخ، كان للأزهر الشريف دوره الرائد في نشر الإسلام، عبر تكوين الأئمة والدعاة الوافدين إليه من مختلف الدول الإفريقية، بما في ذلك دول حوض النيل. تشهد أسماء أروقة الأزهر بذلك. وكان خريجو الأزهر من تلك الدول "سفراء" فخريين لمصر في بلدانهم، وكانت العلاقة الثقافية تتعاظم مع تلك الدول التي اتخذت من الأزهر قبلة للنور ومنهلاً لغرف المعرفة.
ومن قبل، كانت الكنيسة المصرية الأقرب إلى الكنيسة الإثيوبية، فكلاهما تتبعان الأرثوذكسية وكلاهما كنيسة وطنية مستقلة لا تتبع لأي كنيسة مسكونية ما وراء البحار، ولم يكن الخلاف العقائدي ما بينهما مترديّاً مثلما هو عليه الحال الآن.
لقد اضمحلت الصلة ما بين الأزهر وثغوره الثقافية في تلك البلدان، وكادت تختفي المنح التي يوفرها للمتشوقين من الجاليات المسلمة ذات الوجود القوي في دول حوض وادي النيل كلها، بما فيها إثيوبيا "النجاشي" منبع النيل حيث مملكة هرر العتيقة والأورمو، وكذلك في بقية دول الحوض حيث منبع النيل الأبيض من البحيرات الإفريقية العظمى.
لقد آن أوان استنهاض روح الثورة لدوري الأزهر والكنيسة لخدمة مصر بأفق التعاون والمنفعة المتبادلة، وحسن الجوار والاحترام المتبادل على أساس النديّة بين الشعوب.
حوض النيل أم المتوسط؟
يوم خاضت مصر حرب العبور، تضامنت معظم الدول الإفريقية معها بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل "والجود بالموجود"، ذلك أن لمصر مكانة كبيرة في إفريقيا، وهي التي أضاعتها بتجديد أوهام إسماعيل باشا ومن قبله كليوباترا بجعلها "قطعة من أوروبا"! هيهات، فالجغرافيا أهم متغير، بل هي المتغير الثابت الوحيد في التاريخ. سلوا تركيا عن أوروبا ـــ فلا ينبئك مثل خبير.
لقد بدّلت مصر دينها مرات، وغيّرت لغتها مراراً وجددت دماءها كثيراً، لكن جغرافيتها الراسخة السابقة للأهرام استعصت على التغيير، ويظل النيل أهم التضاريس في تلك الجغرافيا.
ليس معنى ذلك أنها لا تنتمي إلى المتوسط، ولكن في ميزان الأولويات، شتان ما بينهما. إن مجال مصر الجغرافي لا ينازعه في الأولوية إلا مجالها القومي ـــ الثقافي العريض، فهي لا تعيش بالمعنى المادي إلا بالنيل ولا تتنفس إلا بخبرتها الثقافية العربية بمعناها الريادي المعرفي الواسع.
مصر بين الانفتاح والانكفاء
عبر التاريخ، دأبت مصر على المراوحة بين طوري القوة والضعف، وهكذا دواليك. وهي في عصور الزهو، منذ أن هزم أحمس الهكسوس، توالى الانفتاح على المجال الحيوي لها، لذا كان اهتمام الفراعنة من التحامسة والرعامسة بالمحيط الإفريقي، فكانت رحلات حتشبسوت إلى بلاد بونت. وكان تفكير محمد علي باشا قد قاده حتى المناطق نفسها في الصومال والسودان وسواحل أريتريا وجزيرة العرب، وهو ما حدث في عهد عبد الناصر. إن الثورات التحررية في موزمبيق وأنجولا وغينيا بيساو، على سبيل الذكر، انطلقت شراراتها كلها من القاهرة! قبل اندلاع لهيبها في تلك الأدغال.
كانت القاهرة موئلاً للثوار ودعم الثورات في كينيا بقيادة كنياتا ولوممبا في الكونغو وغيرهما. تلك المواقف خلقت رصيداً هائلاً لمصر في تلك البلدان، لكنه تبدد في زمن الضعف والمرض الذي أصابها وتجلى في الانكفاء الأخير على نفسها قبل الثورة، فانصرفت عن الدورين العربي والإفريقي، وهجرت مجالها الحيوي! سعيّاً خلف سراب بقيعة خلف المتوسط.
الخبرة المصرية رأسمال التعاون
بعد نجاح تلك الثورات في مختلف البلدان الإفريقية، لعبت الخبرة المصرية دوراً مهماً في بناء تلك البلدان، في حوض النيل وغيره. وسّعت مصر في الخمسينيات من استيعابها للطلاب، ونوعت الفرص المتاحة لتكوين الكوادر الفنية التي تحتاج إليها تلك البلدان، فلم يقف الأمر على منح الأزهر، بل زادت الفرص المتاحة لطلاب تلك الدول للدراسة في مختلف الجامعات وكليات التكوين والتأهيل المطلوبة، وأرسلت المدرسين، بل بعثات تعليمية كاملة بمدارسها ومعاهدها. من جهة أخرى، كانت الخبرة المصرية في المجالات العملية المختلفة رهن طلب تلك الدول، بمختلف الصور وسواء بالاستشارة أو العمالة. صحيح أن مصر فقيرة اقتصادياً، لكنها فاقعة في ثرائها الثقافي ممثلاً في خبراتها الراسخة الواسعة والمتنوعة، فكيف يترك مثل هذا السلاح في الغمد؟ علماً بأن إسرائيل وظفت خبراتها المماثلة لسحب البساط من تحت قدميها في أنحاء إفريقيا؟
لا غالب ولا مغلوب في مياه النيل
توالى استقلال دول حوض النيل مطلع ستينيات القرن الماضي، وظلت الاتفاقيات الحاكمة لتوزيع مياه النيل سارية المفعول طوال تلك الفترة. وفي حين أن مصر كانت دولة منقوصة ثم كاملة السيادة بعد 1922، كانت معظم تلك الدول تحت الاستعمار البريطاني. حتى بعد استقلال تلك الدول التي تمثل المنبع إضافة إلى السودان "دولة الممر" ومصر "دولة المصب"، لم يطرأ أي تغيير على الاتفاقيات. لكن بمضي العقود تبدلت الحقائق على الأرض، وهي أوضاع لا تجدي مناقشتها بمنطق الحقوق والقوانين، فكل الدول سيّدة ومفوّهة في المزاعم، ناهيك عن التلويح بـ "الترسانات" الحربية، وكأنما في الوسع شن حرب على امتداد آلاف الأميال! لكن في الإمكان اختصارها، بل كسبها بالأوراق السياسية "البوليتيكا" التي أفلح الدكتور شرف في السعي إلى نفض الغبار عنها واستخدامها بالتالي، من أجل "تسويات" تراعي مصالح الأطراف كافة، بلا ضرر ولا ضرار.
إثيوبيا كمثال، تزخر بعدد سكان لا يقل عن عدد سكان مصر، ودول البحيرات أيضاً تزايدت أعداد السكان فيها، وتنوعت الاحتياجات في الدول كافة، خاصة في ظل شُح موارد الطاقة لديها عدا الموارد الكهرومائية، والحاجة إلى التطوير الزراعي. فوق ذلك، فإن دوائر "الصحافة الصفراء" في تلك الدول، تتحدث بمنطق صحافة "التابلويد" نفسه في مصر، متخيّلة أن النيل ملكها لأنه ينبع من أراضيها على غرار آبار النفط، ولعل أطرف ما قيل في ذلك، مطالبة البعض بـ "بيع" تلك المياه للدول "الشاربة" على غرار "دفع" دول المنبع عند شراء "النفط"!
زيارة الدكتور شرف للعواصم "النيلية" في حد ذاتها كسر للجمود وإزالة للصدأ المتراكم بلا مبرر، والاستماع منهم قبل إسماعهم، وتفهمهم قبل إفهامهم وليس إفحامهم .. هو خريطة الطريق التي تفتح المسار أمام قوافل شتى تمثل الدبلوماسية المصرية الشعبية الموازية، لاختراق القلوب وكسب العقول، بما يحقق المصالح القومية للأطراف المتعددة؛ إما بتحقيق أقصى المكاسب وإما الخروج بأدنى الخسائر، وهنا مكمن رشد الدبلوماسية ونجاعة البوليتيكا، فليس هناك في تاريخ المفاوضات إلا "تفاهمات" و"تسويات مُرضية" للأطراف كافة تدوم طويلاً، وما عداها فهي "اتفاقات إذعان" و"إملاءات" لن تصمد ولو طال بها الدهر.
مصر والسودانان
الآن، وقد بات السودان سودانين. على الدكتور شرف الذي شرّف الخرطوم بأول زيارة له، أن يستكمل سعيه بزيارة جوبا لأسباب عدة:
- صيرورة جنوب السودان إلى دولة ذات سيادة، لا يبدل حقيقة العلاقات القديمة، ولا ينبغي.
- لمصر دورها في تحقيق أي من صور أو مستويات التكامل بين السودانين، ما بينهما، بل ومعهما.
ـــ في صلب المصالح القومية لمصر، عدم ترك الدولة الوليدة لقمة سائغة لإسرائيل، خاصة أن مصر ما بعد الثورة، تسعى إلى استعادة ثقلها الكبير والموازن في النظام الاستراتيجي الإقليمي الفرعي في الشرق الأوسط، ووجودها الاستراتيجي النوعي في العمق الإفريقي.
ـــ لمصر مصلحة بالغة الخصوصية في إحياء مشروع قناة جونقلي، بما يحقق الاستفادة القصوى منه بمنع تسرب وتبخر كميات هائلة من مياه النيل في منطقة السدود، شرط الأخذ في الاعتبار تحفظات دولة جنوب السودان بشأن الانعكاسات البيئية السلبية للمشروع، وبالتالي إعادة النظر لتلافيها، ما أمكن بعد الاتفاق الودي.
ـــ أخيراً، فالتعاون عبر تقديم المساعدات الفنيّة وتصدير الخبرة وفتح مجال فرص الدراسة لأبناء جنوب السودان وإفريقيا عموماً (خاصة مشروع جامعة وادي النيل أو إفريقيا في أسوان)، من الأدوات المهمة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية والمصالح القومية الاستراتيجية العليا لمصر، بكسب القلوب والعقول، فالمساعدات ليست للتفضل أو المباهاة، ونظرة إلى المساعدات الأمريكية بمئات مليارات الدولارات لمصر طوال عقود، دليل على أهمية توظيفها كأداة محورية لتحقيق أهداف السياسة الخارجية بعيدة المدى، في الأجل الطويل.