خواطر حول المجالس البلدية
عندما أعلنت وزارة الشؤون البلدية والقروية بدء الإعدادات لانتخابات المجالس البلدية أيقنت أن هذا الحدث سيكون موضوعا للعديد من المقالات لكتاب الرأي في الصحف السعودية، وأيقنت أن مواقفهم منها ستتباين بين المؤيد والمعارض. ولكنني لم أتوقع أن أرى مثل هذا التطرف الذي رأيته في المواقف، فالمؤيدون ركزوا على الجوانب الإيجابية بكثير من التضخيم الذي كان بعيدا عن واقع التجربة التي عاشها المجتمع خلال السنوات الست الماضية من عمر المجالس البلدية في دورتها الأولى، والمعارضون بالغوا في الامتعاض وإبراز الجوانب السلبية حتى أنهم قرروا مقاطعة الانتخابات وإشاعة جو بعدم جدواها. ومع أني كنت قد آثرت عدم الخوض في هذا الموضوع، إلا أن هذه الحالة من التناقض المتطرف في الطرح دفعني إلى كتابة هذا المقال في محاولة لطرح رؤية متوازنة موضوعية تعين القارئ الكريم على اتخاذ موقف بناء من هذه التجربة. وربما يكون الدافع الأكبر لكتابة هذا المقال هو النقاش الذي دار مع عدد من أعضاء مجلس الرياض البلدي ضمن برنامج الملتقى المصاحب لمعرض الرياض للعقارات الذي شهدته المدينة الأسبوع الماضي، والذي شهد كثيرا من الشد والجذب حول تجربة المجالس البلدية وقضية الانتخابات.
أبدأ حديثي بالتأسيس إلى الفصل بين موضوعين يتعلقان بهذه القضية، الأول هو دور وأداء ومهمة المجالس البلدية، والثاني هو موضوع الانتخابات وجدوى المشاركة فيها. والموضوعان لا يحملان أي صفة من صفات التلازم، بالرغم من أنهما يتعلقان بذات القضية، إذ إن الانتخابات كآلية معتمدة لاختيار أعضاء المجالس البلدية ليست إلا وسيلة من وسائل اختيار الممثلين، يمكن النظر إليها على أنها خطوة من خطوات تأسيس فكر العمل الديمقراطي الذي يعكس توجها من الدولة ضمن منظومة البرامج الإصلاحية، في حين أن دور المجالس البلدية يحمل أهمية في تفعيل دور المشاركة الشعبية في العمل البلدي، بغض النظر عن آلية اختيار أعضائه. الحديث ذاته ينجر على بقية المؤسسات الرسمية في هيكل الدولة، ومنها على سبيل المثال مجلس الشورى، فالحديث عن آلية اختيار أعضاء المجلس عبر الانتخابات أو التعيين لا علاقة له بتفعيل دور المجلس وأداء الدور المأمول منه، إذ لا جدوى من انتخابات يتم من خلالها تشكيل مجلس لا يملك الصلاحيات والأدوات التي تمكنه من أداء هذا الدور. وفي المحصلة، فإن تفعيل دور المجالس البلدية يتطلب إيمانا من الدولة بأهمية هذا المجلس، والحاجة الملحة لتقييم تجربة الدورة الأولى من عمره، ومنحه الوسائل والصلاحيات التي تجعل الدورات القادمة أكثر نجاحا وفعالية.
النقاش الذي دار في ملتقى معرض الرياض للعقارات سعى فيه أعضاء مجلس الرياض البلدي إلى إبراز الجهد الذي بذلوه في الدورة المنقضية من عمر المجلس، وسجلوا بلغة الأرقام حجم ذلك الجهد بعرض عدد الشكاوى التي استقبلوها وتعاملوا معها، وعدد القضايا التي بحثوها وناقشوها مع الجهات المعنية، وعدد الاجتماعات واللقاءات الشعبية التي عقدوها. وكالعادة، فإن لغة الأرقام التي تركز على إبراز الكم لا الكيف كانت الوسيلة التي استخدمها أعضاء المجلس في إبراز جهدهم ونجاحهم في الدورة الماضية، مع أن هذه اللغة لا يمكن أن تكون أداة لقياس هذا النجاح بعيدا عن إبراز حجم التغيير والتطور في العمل البلدي وتنمية المدينة الذي نتج عن تلك الجهود واللقاءات والاجتماعات. وبنظرة عامة لأداء المجالس البلدية استنادا إلى مشاهداتنا خلال السنوات الست الماضية. ومجمل الحديث الذي دار في ذلك الملتقى، فإن تلك المجالس كانت تعمل استجابة للضغط الشعبي الذي كان يقع عليها في شكل شكاوى أو طلبات تتعلق بمشكلات الناس اليومية، وغلب على أداء تلك المجالس غياب استراتيجية ممنهجة تتضمن برامج عمل مرسومة محددة وأولويات محددة لتطوير العمل البلدي وتحسين جهود تنمية المدن وتطوير أطر العمل المؤسسي في الأجهزة البلدية وتفعيل علاقاتها مع بقية أجهزة الدولة ذات العلاقة. ونتيجة لذلك أصبحت المجالس البلدية أقرب إلى أن تكون جهازا بيروقراطيا آخر من أجهزة الدولة، عوضا عن أن تكون مؤسسات مدنية تمارس دورها الحقيقي في التشريع والرقابة والتنظيم والمحاسبة لقطاع العمل البلدي. هذه العشوائية في ممارسة عمل المجالس البلدية كانت أحد أهم السمات التي طبعت ملامح الدورة المنقضية من عملها، والسبب الرئيس لهذه الحالة من الإحباط من دور المجالس البلدية التي يشهدها المجتمع وتعكسها كتابات المعارضين من كتاب الرأي. وللإنصاف، فإن هذا القصور في عمل المجالس البلدية لم يكن نتيجة لقصور قدرات أعضاء المجالس البلدية، وكثير منهم هم من أعمدة المجتمع ونخبه الثقافية والمهنية، خاصة في حالة مدينة الرياض، بل نتيجة للتحجيم الذي عانته المجالس البلدية من قبل الدولة، وعدم امتلاكها الصلاحيات والأدوات التي تمكنها من أداء دورها الحقيقي. أحد الأمثلة على هذا الواقع هو ترؤس رئيس البلدية أو أمين المدينة للمجلس البلدي في كثير من الحالات، وهو ما يعكس في رأيي حالة من حالات تعارض المصالح في إدارة جهازين أحدهما تنفيذي والآخر رقابي على الأول، وأرجو ألا تؤخذ هذه الملاحظة على محمل الاتهام أو التشكيك، إذ إن كثيرا من أولئك الأمناء ورؤساء البلديات هم من الكفاءة والنزاهة في موقع التميز، إلا أن هذه الازدواجية توقع خللا في الإدارة والتطبيق في إطار طبيعة النفس البشرية. وعلى أية حال، فإن إنجاح مسيرة عمل المجالس البلدية في الدورات القادمة تتطلب كما قلت فهما لأوجه الخلل في حالة الدورة الماضية، وتحقيق الفصل التام لهذه المجالس عن الأجهزة البلدية التنفيذية، وتفعيل دورها كمؤسسات مدنية شعبية، وتسليحها بالوسائل التي تمكنها من أداء دورها المأمول.
أما في الموضوع الآخر، وهو موضوع الانتخابات، فإن أي قصور أو حتى فشل في تجربة المجالس البلدية في الدورة المنقضية لا يمكن أن يكون سببا لمقاطعة الانتخابات. وآلية الانتخابات كما قلت تمثل خطوة من خطوات توسيع المشاركة الشعبية وتطبيق الديمقراطية ضمن خطط الإصلاح التي تبنتها الدولة، وهي ممارسة تتطلب التطور والتدرج في التطبيق لتحقق الفعالية المأمولة منها. إن مقاطعة الانتخابات لن تؤسس لأي نجاح في العمل الديمقراطي، ولن تنتج مجلسا أفضل أو أسوأ، بل إنها يمكن أن تكون سببا في تعطيل مسيرة التنمية والإصلاح. إن حق الانتخاب هو حق وطني يجب على كل مواطن أن يمارسه لتأكيد دوره في اتخاذ القرار وإدارة أجهزة الدولة، والتخلي عن هذا الحق يمكن أن يكون شكلا من أشكال التخلي عن المواطنة. وإذا كان الانطباع السائد بأن انتخابات الدورة الماضية هي السبب في تشكيل مجالس لم تحقق الدور المأمول منها، فإن هذا الأمر يوجب أن تتم ممارسة هذا الحق الانتخابي بشكل أكثر توسعا ومشاركة ووعيا حتى يتم اختيار من هم أكثر كفاءة وقدرة على أداء هذا الدور، وتمثيل حقوق المواطنين في المجالس البلدية. إن الدعوة لمقاطعة الانتخابات هي دعوة لمقاطعة الوطن، فهل يمكن أن نكون مواطنين فاعلين بمثل هذه الحالة من السلبية؟