استراحات الطرق .. حوار مع أهل القطاع

هذه هي المرة الثالثة التي أكتب فيها عن هذا الموضوع، وهو ما يمثل استجابة لطلب من أحد الإخوة الأعزاء الذي ظل يلح علي بتكرار الكتابة فيه مرات ومرات، نظرا لما يحمله من أهمية، وما يواجهه من تجاهل من الجهات المسؤولة عنه وعلى المستويات كافة. هذه المرة أنطلق بحديثي من مضمون الحوار الذي دار مع أعضاء اللجنة الوطنية لمحطات الوقود، الذين جمعني بهم لقاء نظمته هذه الصحيفة الغراء لمناقشة مشكلات هذا القطاع من وجهة نظر أهله. وفي الحقيقة، فإن هذا الحوار كشف لي كثيرا من الأمور التي تعد خافية على كثيرين من غير أهل القطاع، وجعلني أعيد تشكيل وجهة نظري حول هذه القضية استنادا إلى فهم أشمل لطبيعة المشكلات التي تحيط بها. هذا المقال يعرض خلاصة وجهة النظر هذه، علها تسهم في معالجة هذه القضية الحيوية التي أصبحت تصنف ضمن القضايا المستعصية على الحل، مثلها في ذلك مثل قضايا الإسكان والبطالة وغيرهما كثير من قضايا التنمية.
أبدأ أولا بعرض مجمل حديث أعضاء اللجنة من ممثلي أهل القطاع، الذي شرحوا فيه مواطن معاناتهم وأسباب مشكلاتهم التي رأوا أنها السبب الحقيقي وراء ما يواجهه هذا القطاع من ضعف في الأداء وترد في المستوى. قالوا إن عدد محطات الوقود في المملكة يبلغ نحو عشرة آلاف محطة، منها نحو 70 في المائة محطات قديمة ومتهالكة المستوى. وقالوا إن أهم مشكلاتهم تتمثل في غياب استراتيجية واضحة لتوزيع المحطات في المخططات داخل المدن، أو على الطرق بين المدن؛ الأمر الذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى تراكم المحطات في مواقع قريبة من بعضها بعضا لتتنافس على خدمة ذات العدد من العملاء، مما يقلل من عوائد الربحية فيها، ويؤدي بذلك إلى تدني مستوى الخدمة. قالوا كذلك إن القطاع يشهد غياب شركات متخصصة في تشغيل محطات الوقود واستراحات الطرق، وشيوع ممارسة التشغيل الذاتي للمحطات والاستراحات من قبل ملاكها الذين تغلب عليهم صفة الفردية، وهو ما عبروا عنه بغياب ثقافة العمل المؤسسي في مجمل القطاع، موضحين أن 12 في المائة فقط من تلك المحطات تتم إدارتها من قبل شركات متخصصة، فيما تتم إدارة 88 في المائة الباقية من قبل عمالة يتم التستر عليها من ملاك المحطات، وهو ما يخلق في رأيهم منافسة غير عادلة جرت القطاع إلى ما يشهده من تدن في المستوى والأداء. قالوا أيضا إن القطاع يعاني من تحديد أسعار الوقود، وهو تحديد لا يسمح لهم بوضع أسعار مناسبة تحقق لهم عوائد مجزية يمكن أن تكون دافعا لتطوير المحطات والاستراحات، وطالبوا بتحرير أسعار الوقود وفتح الباب للمنافسة العادلة في هذا المجال. وقالوا أيضا إن تخصيص أراضي المحطات والاستراحات يتم بموجب منافسات تطرحها وزارة المالية أحيانا، ووزارة الشؤون البلدية والقروية أحيانا أخرى، وهي منافسات مفتوحة لمن هب ودب دون وضع أي معايير تضمن تقدم شركات مؤهلة لتطوير وإدارة هذه المرافق، وهو ما يسمح للدخلاء بالتقدم لهذه المنافسات، وتقديم أسعار غير مدروسة تنعكس تاليا على مستوى البناء والخدمة بالتدهور والاسترخاص. قالوا أيضا إنهم يعانون من تسلط وزارة العمل عليهم وعجزهم عن تحقيق نسب السعودة المفروضة عليهم، واشتكوا من أن قطاعهم غير جاذب للسعوديين، وهم الذين يترفعون عن العمل اليدوي خاصة في مجال تعبئة الوقود وميكانيكا السيارات وغيرهما من الخدمات التي تقدمها هذه المحطات. قالوا أيضا أكثر من ذلك مما سيحتل كامل مساحة المقال لو كنت لأوردها جميعا. وأكتفي هنا لأقول ما أريد أن أقول.
ما قاله أهل القطاع من مشكلات ومعوقات رأوا أنها وراء التدهور الذي يشتكي منه الجميع، أثار كثيرا من التعاطف والتفهم لما يعيشونه من معاناة، وخلق لدي كما قلت مزيدا من الفهم لمشكلات القطاع. ولكني أقول لهم في المقابل إن هذه المشكلات والعوائق ليست حكرا على هذا القطاع، بل هي مشكلات أصبحت سمة من سمات قطاعات الأعمال كلها في المملكة، وكلها تشتكي من التستر والمنافسة غير العادلة والفردية عوضا عن المؤسسية وتأثير نظم المشتريات الحكومية والتخطيط الحضري والسعودة وغير ذلك كثير، فلماذا اختص هذا القطاع بكونه الأكثر تدهورا وتهالكا بين كل القطاعات الأخرى، ولماذا لا نجد بين كل تلك المحطات التي بلغ عددها عشرة آلاف محطة كما قالوا، ولو محطة واحدة يتيمة حققت شيئا من التميز والنظافة. حتى تلك النسبة من المحطات التي تدار من قبل الشركات المتخصصة، التي بلغت 12 في المائة من المحطات، لم تنج من هذا الواقع الأليم. أقول لهم أيضا إن الشكوى من تحديد وتوحيد سعر الوقود لا يمثل مبررا لهذا التدهور، خاصة أن ما يطالبون به من تحرير للأسعار يمكن أن يؤدي إلى كثير من حالات الاستغلال والتربح على حساب حاجات الناس، خاصة المسافرين منهم على الطرق بين المدن، خاصة أن الوقود لا يمثل إلا سلعة واحدة من السلع والخدمات العديدة التي يمكن أن يتم تقديمها في تلك المحطات والاستراحات، وربما لا تمثل في كثير منها سوى نسبة ضئيلة من الدخل. أقول لهم أيضا إن السعودة واجب وطني من ناحية، ولكنه مشكلة عامة من ناحية أخرى. ومع ذلك، فإن السعوديين الذين قبلوا العمل في المطاعم ومحال التجزئة وغيرهما من المهن التي تقع في التصنيف ذاته يمكن لهم أن ينخرطوا في العمل في محطات الوقود واستراحات الطرق فيما لو وفرت لهم شركاتهم بيئات عمل جاذبة، ورواتب مجزية، إذ ليس من العدل أن نتوقع أن يعمل السعودي بالدخل والمميزات ذاتها وفي البيئة ذاتها التي يعمل فيها ذلك الوافد الذي أتى من بيئات نعلم جميعا طبيعتها. أقول لهم أيضا إن هذه المشكلات والمعوقات يمكن أن تبرر غياب الاستثمار في هذا القطاع أو حتى الخروج منه بالكلية، ولكنها لا تبرر هذا التدني الرهيب في المستوى، ولا الانزلاق إلى المنافسة مع تلك الفئات الرديئة من المحطات بالهبوط إلى مستواها، وهو الواقع ذاته الذي جرّت فيه شركتا الطيران المعلومتان ''الخطوط السعودية'' إلى هذا التدني في مستوى الخدمة عبر تدني مستوى المنافسة.
خلاصة القول، قطاع محطات الوقود واستراحات الطرق قارب الانهيار، بل هو فعلا في أسوأ حالاته، وإنقاذه يتطلب جهدا مخلصا من أهل القطاع أولا وثانيا وثالثا. صحيح أن الدولة تتحمل كثيرا من المسؤوليات حيال هذا التدهور، ولكن القطاع، وأي قطاع، لا يمكن أن يجد الاهتمام المأمول من قبل الدولة، ولا الدعم من قبل فئات المجتمع، إلا إذا آمن أهل القطاع بقطاعهم، وانبروا له مدافعين ومناضلين بالمطالبة بحقوقهم، وخلقوا نماذج من نجاحات يمكن أن تجعل الدولة والمجتمع يمنحاهم الثقة التي يطلبونها من جديد. وقديما قالوا، فاقد الشيء لا يعطيه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي