الوعد الأمريكي انتهى وديمقراطية «الفيسبوك» لن تدخل العرب التاريخ
حتما، لن تدخل ديمقراطية الفيسبوك العرب التاريخ، ولن ترضى واشنطن وتل أبيب بمخرجات ديمقراطية حقيقية، ولطالما أنها ديمقراطية عرجاء ومقيدة ومعتمدة اقتصاديا على بركات واشنطن، فحتما لن يتغير شيء، فالذاكرة العربية ما زالت تتذكر كيف تآمر الغرب على نتائج الديمقراطية في الجزائر عندما حصد الإسلاميون المقاعد النيابية، وكذلك في غزة، وسيكون الأمر ذاته في أي مكان، ولهذا يتخوف الإخوان المسلمون في مصر وتونس من التجربة ذاتها، فأعلنوا مبكرا أنهم لن يحصلوا على الأغلبية، ولن يترشحوا للرئاسة ولن يدعموا أي مرشح انشق عن جماعهم، وبذلك يلتقي الإخوان مع الطرح أو الطلب أو المقياس الأمريكي للديمقراطية.
ما انفكت الولايات المتحدة منذ النصف الأول للقرن العشرين تريد شرقا أوسطا طوع اليد، لذلك جاءت بكثير من المبادرات السياسية، والأحلاف التي أرادت من خلالها إحلال أنظمة تابعة لها، وشجعت على الحرب والسلام في آن واحد، وكان هذا الحضور يتخذ من الظروف السياسية مدخلا له، مرة جاءت بداعي الخطر السوفياتي ومكافحة الحضور الشيوعي، وأخرى بحجة الاستقرار في المنطقة، بعد أن ساهمت بإغراء الرئيس صدام حسين لمواجهة الخطر الإيراني غير أنها أغوته باحتلال الكويت، وبين الحربين كانت تمنح إسرائيل مبررا لاجتياح بيروت في كذبة بررها أحد أبرز وزراء خارجية الإمبراطورية إلكسندر هيج (1981 ــ 1982)، الذي توطأ مع أرئيل شارون لغزو لبنان، فإطلاق النار على السفير الإسرائيلي أمام الدور شستر في لندن لم يكن الذريعة الحقيقية لغزو لبنان.
ومرة ثالثة جاءت الولايات المتحدة بدايات التسعينيات من القرن الماضي على قارب السلام العادل المنشود للشرق الأوسط، ولما استنفد السلام أنفاسه بوعود لم تنته إلى نتيجة، حضرت الولايات المتحدة بالدعوة إلى الديمقراطية والإصلاح، وهو حضور تناوب عليه رئيسان بوش صاحب الفوضى الخلاقة والديمقراطية بالعنف، والنتيجة الشاخصة لتلك السياسة العراق المنقسم، وأوباما الذي أرادها ديمقراطية ناعمة تأتي بالثمار ذاتها وتجني المصالح ذاتها، وكان خطابه في القاهرة يوم زارها بالدعوة للتغيير أولى الرسائل المبشرة بما يجري اليوم، لكنها رسالة سريعة مرت دونما تدبر عربي.
16 وزير خارجية أمريكي مروا على المنطقة منذ جاء فوستر دالس عام 1952 بمشروع إيزنهاور المشابه لمشروع بوش الابن، وكان بينهم هنري كسينجر الذي أكد مرارا أن لا فلسطين خارج إسرائيل، مسابقا بذلك جولدا مائير المرأة التي أعجب بها أكثر من أي سياسي آخر، ثم هناك وارن كريستوفر الذي زار المنطقة 26 مرة يلملم بقايا مسارات السلام التي كان ألكسندر هيج أول من حاول دفعها، ولم تشهد الدبلوماسية الأمريكية أكثر من مادلين أولبرايت العجوز المتخففة من حقدها اليهودي القديم، رغبة في تحقيق إنجاز أمريكي في المنطقة، لكن كوندليزا رايس هي الأكثر حضورا في جولات إحلال الديمقراطية، لكنها لم تترك أثرا وقورا مثل جميس بيكر الذي تحول بعد إنهاء مهمته إلى مبعوث سلام أمريكي في مسألة الصحراء المغربية. أما دين رسك فقد أقام مطولاً في الخارجية الأمريكية وكان حاضرا في التفاصيل الأكثر حرجا في تاريخ المنطقة في حقبة ما قبل النكسة وما بعدها (1961 ــ 1969) وهو الأكثر إقامة في مكتب وزارة الخارجية بعد كورديل هيل.
وليام روجرز كثف حضوره في المنطقة بين عامي (1969 ــ 1973) وقدم مبادرة روجرز لحل الصراع العربي ــ الإسرائيلي، لكن إنجازه لم يصل إلى ما وصل إليه هنري كيسنجر مهندس "كامب ديفيد" عام 1978. في حين أن جورج شولتز كان المبادر للدعوة لحل الدولتين بين عامي (1982 ــ 1989). لكن خبرته كرئيس جامعة شيكاغو وكرجل اقتصاد حذر كانا أكثر حضورا في شخصيته فلم يترك أثرا يذكر لا في الديمقراطية ولا في السلام الأمريكي.
وزير آخر هو أدموند موسكي حضر بفاعلية في الشرق الأوسط، إذ قاد موقف إدارة كارتر من مبيعات الأسلحة الأمريكية لإيران ضد العراق وكان يميل لإسرائيل كيلا ينتصر العراق، وهندس موسكي صفقات طائرات الفانتوم الإسرائيلية لإيران، التي قدمت تسهيلات لهجرة يهودها آنذاك عبر أفغانستان ثم أستراليا فإسرائيل.
كولن بأول جاء في زمن نشر الديمقراطية، ومع أنه اكتسب خبرة عسكرية في حرب الخليج الثانية، إلا أن عقدة الأصل الجمايكي ظلت تلازمه، ثم تحطمت مصداقيته أمام كذبة أسلحة العراق للدمار الشامل التي أعطت مبررا للحرب ضده، وفي النهاية أقصي بفعل فريق بوش نفسه الذي تكون من رجال عصابات وحروب وشركات أمنية.
هناك وزراء أمريكان لا يذكرون بيننا، لأنهم لم يروا حضورهم في الشرق الأوسط، فكرستيان هرتر قدم عام 1959 مشروع التعاون الأمريكي الأوروبي الذي انتهى باتفاقية هلسنكي 1975 التي نظمت أسس التعاون بين الدول الأوروبية، رغم أنه مهندس التعاون الأوروبي الأمريكي إلا أن أثره لم يبلغ أقرانه السابقين. وفي عهد كارتر جاء سايروس فانس وزيرا وهذا الأخير الذي شغل الوزارة بين عامي (1977 ــ 1980). لا يذكر بشيء عندما يقارن بأولبرايت وسطوتها على رؤساء دول الفلك الأمريكي أما لورنس إيجلبرجر فرغم أنه وجه الدعم لمنطقة الشرق الأوسط، إلا أنه لم يكن ذا أثر كبير، في حين أن هيلاري كلينتون تجد بطولتها في دعم التغيير والثورات العربية، كتعويض عن فشلها في دفع السلام قدما، الذي كانت قد قبلت استقالة جورج ميتشل.
في الشرق الأوسط سقطت مصداقية وزراء خارجية الإمبراطورية، وفيها يجري إعداد القادة اليوم ولش وفيلتمان وهيل والبرتو فرناندز وجون أبا زيد جميعهم كانوا في سفارة عمان أو درسوا العربية في الجامعة الأردنية، كما أن الشرق الأوسط ظل المنطقة التي كانت ترف منها عين الرؤساء باعتبارها بوابة الدخول للبيت الأبيض، والنجاح فيها قد يؤهل للبقاء ثانية.
معادلة الحضور الأمريكي في الشرق الأوسط، تجلت في مبدأين السلام والديمقرطية، وهي سياسة لا تخفق إلا باللامتوقع وهو الثورات الانقلابية، فيوم وقع العراق مع تركيا (حلف بغداد) بتاريخ 25/2/1955 لمدة خمس سنوات، وانضم إليهما بريطانيا وباكستان وإيران في العام نفسه، ثار الشارع الأردني ضد هذا الحلف، ومع أن فوستر دلس دعم هذا الحلف بقوة، وأدخل بلاده في اللجنة العسكرية للحلف إلا أنه لم يتوقع أن تصاب سياسته بنكسة بعد ثورة 1958 في العراق، فنزلت قوات عسكرية أمريكية في لبنان، ثم اضطرت إلى الانسحاب فيما بعد، وفشل الحلف بعد ذلك. وفي مصر، كان مشروع السد العالي في أسوان من أولى اهتمامات جمال عبد الناصر، وكانت مصر تنتظر دعما مالياً أمريكياً لإقامته، لكن قبول عبد الناصر عرض الأسلحة السوفياتية الحديثة، ووصول شحنة من هذه الأسلحة فعلاً إلى مصر، أثار غضب دالس، فأعلن في 19/7/1956 أن الولايات المتحدة سحبت عرضها بتمويل السد العالي، ما دفع القيادة المصرية إلى تأميم شركة قناة السويس في 26/7/1956 لتمويل السد العالي من عائداتها، وهو الأمر الذي أدى إلى العدوان الثلاثي، الذي انتهى بسبب الإنذار الروسي وضغط أمريكا على حلفائها بإنهاء ذلك العدوان، الذي عدّه دالس وأيزنهاور "قطيعة لجبهة الأطلسي، وضربة للأمم المتحدة وخيانة لواشنطن"، واضطر المعتدون إلى الانسحاب.
وفي أواخر سنة 1956 عرض الوزير دالس على الرئيس الأمريكي مشروعاً عرف باسم "مبدأ أيزنهاور" يتلخص في حق التدخل في حالة هجوم شيوعي، وإعطاء معونة اقتصادية للبلاد العربية التي تقبل هذا المشروع الذي أقره الكونجرس فعلاً.
اليوم يتكرر المشهد، أوباما يدعم التحول نحو ديمرقاطية موالية وناعمة، ديمقراطية بالمقاس الأمريكي، لأن الديمقراطية الثورية خطر عليها، ولأن الديمقراطية التي تلد إسلاميين حقيقيين غير مرغوب فيها، وكما أن السلام يمكن نعيه بعد خطاب نتنياهو في الكونجرس فإن على العرب أن يدركوا أن الوعد الأمريكي انتهى وتحطم، وأن إحلال الديمقراطية عبر نخب تابعة ومرتهنة وعبر الفيسبوك ليس هو الحل الذي سيدخل الشعوب بوابة التسجيل في نادي الامبراطورية.