نُطُق النطاقات

القصد من عنوان هذا المقال ليس فقط بيان الخطأ اللغوي في تسمية برنامج نطاقات وزارة العمل، من ناحية أن الجمع الأصح لكلمة نطاق هو نُطُق وليس نطاقات، ولكنه عنوان لما أريد أن أتحدث عنه حول هذا البرنامج، ونطق ومجالات تأثيره في معالجة مشكلة البطالة في المملكة. وأبدأ الحديث معترفا بأنني كنت قد وقفت من هذا البرنامج موقفا مشككا منذ أن أعلنت عنه الوزارة، مبررا هذا الموقف بذلك الشك الدفين الذي رسخته الوزارة في قدرتها على التعاطي مع هذه المشكلة الذي أصبحت تبدو كما لو أنها استعصت على الحل، وذلك الفشل الذريع الذي واجه كل برامجها السابقة. هذا الاعتراف يأتي بعد أن استمعت إلى ذلك العرض الذي قدمه المهندس عادل فقيه وزير العمل الأسبوع الماضي في مركز معارض الرياض الدولي، والذي نظمته غرفة الرياض التجارية والصناعية. ذلك العرض الذي استخدم فيه الوزير أسلوب العرض الذي يستخدمه بيل جيتس في أحاديثه على المسرح، فجاء عرضه شيقا جاذبا للانتباه والتفاعل، علاوة على كونه جاء مسهبا وموضحا لهذا البرنامج بشكل أزاح كثيرا من الشكوك التي كانت راسخة في نفوس رجال الأعمال الذين حضروا ذلك اللقاء. ولكن، وعلى الرغم من القناعة التي خلفها هذا العرض حول مصداقية البرنامج، والتفاؤل الذي رسخه بإمكانات نجاحه، إلا أنني ما زلت مؤمنا بأن البرنامج لن يجد النجاح الذي يرومه الوزير، ليس لخلل في البرنامج، ولكن لخلل أراه في آليات تطبيقه، وانسلاخه عن عدد آخر من الحلول والبرامج التي يجب أن تنطلق بالتوازي معه، لتشكل في مجملها منظومة متكاملة وبرنامجا شاملا لحل المشكلة، انطلاقا من حتمية تبني الحل الشامل المبني على فهم عميق لجذور المشكلة، بعيدا عن الحلول والبرامج المجتزأة والمتناثرة التي لا يمكن لها أن تحقق النجاح المأمول. ومن هنا، أعرض أمام ناظري الوزير في هذا المقال مجموعة من الرؤى والتساؤلات حول هذا البرنامج، وهي التي لم يتسن لي أن أطرحها في ذلك اللقاء، في ظل السيطرة التي مارسها قادة الغرفة الذين احتلوا الصفوف الأولى من صفوف المسرح على المايكروفون، فاستأثروا بالأسئلة والنقاش والحوار.
ما خرجت به من هذا اللقاء هو أن هذا البرنامج تم تصميمه ليقدم مجموعة من الحوافز لمؤسسات وشركات القطاع الخاص لتوطين الوظائف وتوظيف السعوديين، انطلاقا من تقسيم تلك الكيانات إلى قطاعات وفئات بحسب النشاط وحجم المنشأة، وتحديد مستويات محددة من نسب السعودة لكل قطاع وفئة، حيث تمثل كل نسبة نطاقا من نطاقات البرنامج المتدرجة من الأحمر إلى الأصفر إلى الأخضر وصولا إلى الذهبي المميز. ويقدم البرنامج حوافزه لتلك الكيانات التي تقع في النطاقين الأخضر والذهبي، بينما يضع الكيانات التي تقع في النطاق الأصفر في موقع الإنذار، ويوقع على الكيانات التي تقع في النطاق الأحمر عقوبات حازمة عبر منعها من الاستقدام والاستفادة من خدمات مكاتب العمل. ومع أن هذا البرنامج يحمل في طياته كثيرا من الإيجابيات، إلا أنني أرى أن المشكلة فيه تكمن في طبيعة الحوافز التي يقدمها، والتي تقوم على منح الكيانات التي تقع في النطاقين الأخضر والذهبي مرونة واسعة في الاستقدام، وكذلك في نقل كفالة الوافدين الذين يعملون في كيانات النطاقين الأصفر والأحمر دون موافقة أصحاب تلك الكيانات. ومكمن الخلل في هذا الجانب هو أن الوزارة تكون بذلك كمن يعالج الداء بالسم، فمنح التأشيرات والتوسع في توظيف الوافدين يتناقض مع صلب المشكلة، علاوة على أنه يشكل دافعا لإعادة توزيع تواجد الوافدين في قطاع معين من مؤسسات القطاع الخاص، عوضا عن السعي لإحلال السعوديين مكان الأجانب، تحقيقا لمطلب تخفيض أعداد الأجانب العاملين في القطاع الخاص، وتحقيق التوازن بين أعدادهم وأعداد السعوديين الذين قال الوزير أنهم لا يزيدون على 700 ألف سعودي، مقابل أكثر من ثمانية ملايين وافد يعملون في القطاع الخاص. المشكلة الأخرى أن هذه الآلية لا تأخذ في اعتبارها طبيعة التخصصات ومجالات العمل التي يتم توظيف السعوديين فيها، ومعدلات الرواتب التي يحصلون عليها. وعلى أرض الواقع، فإنه لا يمكن على سبيل المثال مقارنة مؤسسة توظف سعوديا واحدا في موقع قيادي بمرتب شهري مرتفع، مع مؤسسة أخرى توظف عشرة سعوديين في وظائف بسيطة بمرتبات متدنية. أخشى ما أخشاه هنا أن تعمد كيانات القطاع الخاص إلى توظيف السعوديين بشكل جزافي في وظائف بسيطة وبمرتبات متدنية، حتى يمكن لهم تحقيق النسب التي تدخلهم في النطاقين الأخضر والذهبي، ليتسنى لهم حينها الاستفادة من تلك الحوافز التي تتيح لهم التوسع في الاستقدام ونقل الكفالة، ليقوموا بتوظيف الوافدين في الوظائف التشغيلية والقيادية، وبمعدلات أعلى من الرواتب والدخول الشهرية. إن تبني مبدأ العدد وحده دون النظر في جوانب النوعية والدخل يمثل موطن خلل رئيس في هذا البرنامج، وهو ذات الخلل الذي أعطب برامج السعودة السابقة وأصابها بالفشل والشلل، ويمكن له أيضا أن يصيب هذا البرنامج في مقتل، ويجره إلى ذات الرف الذي وضعت عليه البرامج السابقة. إن معالجة قضية البطالة والسعي إلى توطين الوظائف يتطلب معالجة جذرية تنظر بعين الاعتبار إلى جوانب التأهيل والتدريب، وتحفيز مؤسسات القطاع الخاص على الارتقاء بقدرات السعوديين وإثبات وجودهم في ميدان العمل، وليس بالدعوة إلى تكديسهم لتحقيق النسب التي تفرضها تلك النطاقات الملونة دون جدوى.
السؤال الآخر الذي يفرض نفسه هو السؤال عن قدرة مكاتب العمل على إدارة هذا البرنامج، وكفاءة العاملين فيها لتطبيقه تطبيقا فعالا، خاصة مع ذلك التفاوت الكبير في القدرات والإمكانات بين مكاتب العمل العاملة في مناطق المملكة المختلفة، وغياب الربط الآلي بين أنظمتها الإلكترونية، وتلك الثقافة الحكومية المسيطرة على منسوبيها، والمشبعة بالبيروقراطية والتشكيك المسبق التي تسيطر على مفاهيمهم. إن السرعة التي تم بها وضع هذا البرنامج موضع التنفيذ دون أن يسبقه برنامج مكثف لتدريب وتطوير قدرات العاملين في مكاتب العمل، وتطوير بناها التحتية، يمكن أن يكون سببا آخر لفشل البرنامج، خاصة في ظل قصور التعريف المسبق والكافي لمؤسسات القطاع الخاص بطبيعة البرنامج وآليات تطبيقه. ومع أن الوزير منح القطاع الخاص مهلة قدرها ثلاثة أشهر بين بدء تطبيق البرنامج وبدء تطبيق حوافزه وعقوباته، إلا أن هذه الفترة لا يمكن أن تكون كافية لتهيئة القطاع الخاص تهيئة كافية للتعاطي معه، الأمر الذي يمكن أن يجر على كثير من مؤسساته الويلات والمصائب التي يمكن أن تكون سببا في تعطيل دورها في مسيرة التنمية جراء وقوعها تحت طائلة العقوبات، وربما يوصلها حتى إلى الخروج من سوق العمل، وتكريس ظاهرة استئثار الشركات الكبرى بالجزء الأكبر من مشروعات التنمية.
ليس هذا كل شيء، ولكن المقام لا يتسع لكل المقال، فللحديث بقية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي