الفكرة والقوة ..
(1)
نشأت السياسة منذ نشأت الجماعات البشرية الأولى ثم القرية فالمدينة، حين أقام ثم استوطن ذلك الإنسان رقعة جغرافية محددة بدافع تحقيق إشباع حاجاته الأولية الأساسية ''الضروريات'' وأبرزها الطعام والأمن قال تعالى: ''لإِيلافِ قُرَيْشٍ(1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ(2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ(3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ(4)'' سورة قريش، أضف إليها الحاجات التحسينية التي تتعطل حياة الإنسان بفقدانها مثل التعليم والصحة والعمران والنقل.
ناهيك من أن الإنسان اجتماعي بطبعه فقد ألف التجمع فاحتاج تبعا له للتنظيم وتقسيم العمل، فكانت السياسة يتولاها رئيسا يتمتع بقوة القبول أو القهر يقول أرسطو في كتابه ''السياسة'': ''إن الدولة هي من عمل الطبع وإن الإنسان بالطبع كائن اجتماعي.. وإن الذي يبقى متوحشا بحكم النظام لا بحكم المصادفة هو على التحقيق إنسان ساقط، أو إنسان أسمي من النوع الإنساني''.
تعرف السياسة اصطلاحا بأنها: ''فن ممارسة القيادة والحكم وعلم السلطة أو الدولة''.
وتعرفها الموسوعة السياسية للكيالي بأنها: ''النشاط الاجتماعي الذي ينظم الحياة العامة لضمان الأمن وإقامة التوازن والتوافق من خلال القوة الشرعية''.
(2)
إن السياسة قوة شرعية تستمد قبولها من قوة الرئيس ذاته وأتباعه، وقوة الفكرة العادلة التي يؤمنون بها. فكلما قوى الرئيس وأتباعه وضعفت الفكرة العادلة كان حكما جبريا، والفكرة بلا رئيس وأتباع أقوياء إيمانا فرديا قاصرا.
إن أعظم فكرة سياسية هي تلك المنبثقة عن الفكرة الكبرى القديمة قدم الإنسان ذاته وهي عله وجوده قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) سورة الذاريات آية 56، وهذه الفكرة الأزلية لها طريق واحد هو الإسلام (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ) سورة آل عمران آية 19، وهذا الإسلام له نظام قال تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) سورة ص آية 26.
(3)
الفكرة عند أي مجدد هي رؤية، والرؤية نخبة، والنخبة مشروع.. تكون عظيما عندما تنقل الفكرة فيؤمن أو يعجب بها الآخرون، فما بالك إذا كان الآخرون هم الملأ أصحاب القوة فتختصر الزمن محققا نتائج كاسحة لصالح الإيمان فتفوز بسؤدد الدنيا ونعيم الآخرة. إن الفكرة تحتاج بين حين وآخر إلى مجددين مؤمنين وواثقين بالنهاية الحاسمة، ويفهمون فهما بسيطا وعميقا سر الخلق، ويدركون الأولويات السَنَيَة ثم ليس لديهم شيء يخسرونه.. إنما أمرت لأعبد الله رب العالمين.. نعم إنها الفكرة السلفية القديمة في الشكل والمضمون في اللغة والمعنى.. من هؤلاء مجدد الفكرة في الجزيرة العربية الإمام محمد بن عبد الوهاب الذي قال عنه الأديب والمفكر السوري أدونيس في تقديمه لسلسلة ديوان النهضة يقول: ''التوحيد هو الأساس الذي تقوم عليه آراء الإمام محمد بن عبد الوهاب وهو البؤرة التي ينطلق منها والمدار الذي تحرك فيه؛ ولكي نفهم النظرة الوهابية إلى الإنسان والعالم علينا أن نفهم بادئ ذي بدء نظرتها إلى التوحيد'' ثم قال: ''التوحيد كما ترى هذه النظرة هو أن نعلم أن الله يتفرد بصفات الكمال المطلق وأن نعترف بهذا التفرد لله وحده بالعبادة. إنه إذن يتضمن توحيد أسماء الله وصفاته وتوحيد الربوبية وتوحيد العبادة: نثبت ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات الواردة في الكتاب والسنة بمعانيها وأحكامها، لا ننفي ولا نعطل ولا نحرف شيئا منها، ننفي تبعا لذلك ما نفاه عن نفسه، معتقدين أنه وحده الخالق الرازق المدبر.
هكذا يتم لنا الإيمان بأن التوحيد أصل الأصول وأساس الأعمال وبأنه حق الله الواجب على البشر وبأن المقصود الجوهري من دعوة الرسل كلهم إنما هو الدعوة إليه'' ثم يقول: ''إن يؤمن الإنسان بالتوحيد هو إذن أن يكمل نفسه، ولا بد أن يقترن هذا الإكمال بإكمال الغير أي بالدعوة إلى شهادة التوحيد: لا إله إلا الله''.. ولهذه الدعوة مستويات من حيث أن كل موحد يدعو بحسب قدرته قولا وعملا.
في هذا ما يؤكد أساسيا على الممارسة، فالتلفظ بالتوحيد أو معرفة معناه والإقرار به والدعوة إليه فحسب أمور لا تكفي، وإنما يجب أن تقترن بالكفر بما يعبد من دون الله قولا وعملا والبراءة منه، ولهذه البراءة وجهان: الأول هو محبة الموحدين وموالاتهم ونصرتهم والثاني بغض المشركين ومعاداتهم، هكذا يتم التطابق بين العلم والاعتقاد وبين العقل والعمل''.
إذاً هذه الفكرة السلفية التي قرأها بإنصاف أديب حداثي فيما أهل الأهواء والفرق والشهوات قرؤوها قراءة ساذجة متصيدين ممارسات خاطئة.
(4)
إن الفكرة تحتاج إلى القوة كي تصبح مشروعا والقوة تحتاج إلى المشروعية يقول ابن المعتز: ''الدين بالمُلك يقوى والمُلك بالدين يبقى؛ فبقاء المُلك بظهور الدين وظهور الدين بقوة المُلك''.
يصف الجزيرة العربية قبل تجديد الفكرة، الدكتور سليمان الغنّام فيقول: ''انحدرت الأمة انحدارا رأسيا ربما لم تشهده في تاريخها لهذين العاملين آنفي الذكر: السيطرة الأوربية من الجنوب والشرق والهيمنة العثمانية من الداخل فساد الجمود وتعطل الفكر وأصبح العلماء - اصطلاحا - حفظة نصوص ينسخون ويترجمون لأسلافهم العظام وأصبحت شعائر الدين طقوسا تؤدي ليس لها من تأثير على حياة الإنسان كفرد وكمجتمع.
في هذه البيئة خرج الشيخ محمد بن عبد الوهاب بدعوته الإصلاحية داعيا الأمة إلى العودة إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كان يمكن أن تتلاشى دعوة ابن عبد الوهاب كما تلاشت سياسيا على الأقل دعوات أمثاله - من قبله ومن بعده - ابن القيم، جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، إلا أن سيف ابن سعود شيخ الدرعية وموقع المنطقة السياسي والجغرافي.. كفل لها فسحة من الزمن مكّنتها من التأثير والتغلغل في البيئة التي خرجت منها''.
(5)
إن مشروع الفكرة والقوة كي يصبح واقعا مؤسسيا معاشا.. يحتاج إلى أمرين: شوكة العصبية من أجل استقرار الحكم وانتظام أمور الدين والدنيا يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم: ''الأئمة من قريش'' أخرجه أحمد، يقول ابن خلدون: ''إن الأحكام الشرعية لا بد لها من مقاصد وحكم تشتمل عليها وتشرع لأجلها، ونحن إذا بحثنا عن الحكمة في اشتراط النسب القرشي ومقصد الشرع منه لم يقتصر فيه على التبرك بوصلة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما هو المشهود، وإن كانت تلك الوصلة موجودة والتبرك بها حاصلا كما علمت، فلا بد إذن من المصلحة في اشتراط النسب وهي المقصود من شرعيتها وإذا سبرنا وقسمنا لم نجدها إلا اعتبار العصبية التي تكون لها الحماية والمطالبة ويرتفع الخلاف والفرقة بوجودها''.
أما الأمر الثاني فهم الأعوان من تكنوقراط ''مستشارين وكبار موظفين'' وهو فرسان يتسمون بالنبالة أو بلغة اليابان ''البو - شي - دو'' الذين التزموا وصايا النبالة الاستقامة أو العدل، الشجاعة وروح الجسارة والتحمل، الرحمة والتعاطف، اللطف والتهذيب، الصدق والإخلاص، الشرف، وواجب الولاء'' إن هؤلاء النبلاء يتصرفون بمسؤولية كبرى كأنما كل حجر ومدر وبشر من الوطن هو جزء منهم يحدثونك عن الماضي بإباء وعن المستقبل بأمل، الأكيد أنهم يمشون على الأرض واثقين بالله.. ثم بالقيادة يقول مونتسكو: ''إن عماد النظام الديمقراطي الصوت الانتخابي وعماد النظام الشمولي القهر وتملك وسائل العنف، أما النظام الملكي فعماده النبلاء''.
(6)
إن العالم اليوم، والعالم العربي بالتحديد، يشهد صراعا عقائديا فكريا وآخر اقتصاديا؛ ما ينذر بإعادة تشكل تضع القوة والفكرة والعصبية والأعوان في السعودية أمام امتحان جوهري وتاريخي في قدرتنا على التمسك بثوابت المعادلة والانفتاح بمرونة على متغيرات العالم، والانتقال بسلاسة إلى المستقبل في إطار مشروع نهضة موحد بقيادة كبيرنا خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز.
أيها السعوديون.. كل بيعة وأنتم بألف بخير.