كيف ندفع الكراهية عن مجتمعاتنا؟

كل ما كتبناه وما قد نكتبه في المستقبل وما يكتبه الآخرون عن ويلات الكراهية عندما تحط رحالها في مجتمع ما فهو قليل من كثير، فالكراهية عندما تستولي على النفوس تشوش العقول فتنقلب الحقائق وتختلط الأولويات وتنحط الأخلاق فيتحول المجتمع إلى مجتمع تعشش فيه الرذيلة بأوضح صورها، بل يتحول مجتمع الكراهية إلى مجتمع شيطاني يتفنن في إنتاج الأخلاق الهابطة ويصدرها إلى غيره من المجتمعات، وبذلك يصبح هذا المجتمع نبتة ضارة قد يستوجب الأمر تعاون المجتمعات الأخرى على التعامل وبشكل جماعي مع خطر هذا المجتمع لحماية أنفسهم من ضرره وشروره.
وكلما امتد العمر بالكراهية في المجتمع استطاعت هذه الكراهية أن تنسج حولها ثقافة خاصة بها ترسخ وجودها وتحميها مما قد يحدث لها حال وجود تطور محدود في الوعي الاجتماعي. ونحن نعلم أن الثقافة لها دور كبير في ترسيخ القناعات الفردية والجماعية، لذلك علينا أن نهتم كثيرا بالأطر الفكرية التي تنتجها الثقافة لنفسها لأننا لا يمكن أن نهزم الكراهية في مجتمع ما إلا بدحر ثقافتها وتفكيك عناصرها، وأخطر هذه العناصر هو العنصر النفسي. فأول ما تهاجمه ثقافة الكراهية عند الإنسان إنسانيته، فهي تريد أن تنتزع منه البعد الإنساني وأن تبعده من حياة المجتمع.
في مجتمع الكراهية تغيب العلاقات الإنسانية لتحل محلها أنواع من العلاقات، التي كلها بلا استثناء، تريد أن تصنف الإنسان تحت عناوين مختلفة: عرقية، قبلية، مناطقية، دينية، مذهبية، فكرية، وغيرها مما يصعب حصرها. أهم شيء تنتجه الثقافة عموما للمجتمع هو نوع العلاقات التي تربط أفراد هذا المجتمع، وكل أنواع العلاقات الاجتماعية غير العلاقة الإنسانية تختزن في داخلها بذور الفتنة والشقاق، لكن لا ضير في وجود هذه العلاقات في المجتمع بشرط أن تتحرك وتأخذ شكلها في إطار الدائرة الأكبر، وهي الدائرة الإنسانية. وهنا تأتي أهمية تنقية ثقافة المجتمع من الأفكار والرؤى والقناعات غير الإنسانية، وهذه الأفكار ربما تتسلل إلى أذهان الناس وثقافة المجتمع إما عبر مسلمات توارثتها الأجيال من غير أن تجد من يقف عندها ويثير السؤال حولها، وإما تجيء عبر قراءة خاطئة للمعتقدات والموروثات الدينية والاجتماعية، فكانت قراءات يعوزها الحس الإنساني في العلاقة مع الآخر، وإما تكون قد أنتجها المجتمع بسبب ما يعيشه هذا المجتمع من ظروف انحطاط وتخلف في الحالة الحضارية، وكانت هذه الأفكار المبنية على الكراهية للآخر المختلف أفكارا مبنية على أمراض وعقد نفسية يكون مصدرها الحسد أو الغيرة من هذا الآخر المتفوق والناجح.
المجتمعات الضعيفة والمتخلفة تتفاوت علاقتها مع المجتمعات الناجحة والمتفوقة، فهناك مجتمعات مكبلة وعاجزة وغير قادرة على اللحاق بركب التقدم، وهذه المجتمعات بدل أن تنشغل بإزالة ما يعيقها ذاتيا للنهوض بنفسها نراها تنزلق في الكراهية لمن تقدم عليها ومن ثم تشرع في تأصيل هذه الكراهية في ثقافتها حتى ترفع عن نفسها الحرج النفسي الذي تشعر به وهي تنظر تراجعها وتخلفها وتقدم الآخرين عليها. وهناك مجتمعات لا ترى في نجاح الآخرين سببا لكراهيتهم، فالنجاح دائما ما يثير التحدي حتى في نفوس الناجحين أنفسهم للمحافظة على النجاح، والكراهية شعور يعطل هذا الإحساس بالتحدي، وبالتالي فإن السقوط في الكراهية في العادة خسارة مضاعفة، فهي توتر العلاقة مع الآخرين وتكرس من حالة التخلف عند المجتمع.
خلاصة هذا الكلام هو أن الكراهية تمثل حالة أخلاقية ونفسية ترتبط بشكل كبير ووثيق بالتخلف، وبالأخص التخلف الثقافي، فالمجتمعات الهابطة ثقافيا أضعف من أن تحمي نفسها من السقوط في الكراهية، وكلما ارتقت ثقافة المجتمع، وتعززت الجوانب الإنسانية في الثقافة، كان المجتمع أقدر على أن يعيش بلا كراهية للآخر وبلا شعور بالحقد على الآخرين.
هناك أمور ثقافية عدة تجلب الكراهية للمجتمع، وبالتالي فإن التنبه لهذه الأمور والذكاء في التعامل معها يمكن المجتمع من حماية ثقافته من أن تكون ثقافة داعية للكراهية، ومن هذه الأمور التي يمكن مناقشتها بشكل موجز ما يلي:
1- عندما يعم الخوف تعم الكراهية، فعندما ننتج مجتمعا ثقافته مبنية على الخوف فإن النفوس الخائفة بطبيعتها نفوس مضطربة وقلقة، وفي إطار هذه الأجواء غير الآمنة تتولد الكراهية للواقع الذي يعيشه هذا المجتمع، فالمجتمع الخائف يبدأ بكراهية نفسه كمجتمع ومن ثم يتفرع هذا الخوف إلى سلسلة من الكراهية التي يتبادلها كل من يعيش في ذلك المجتمع، بالتالي فالمجتمع الخائف لا يستطيع أن يمنع نفسه من السقوط في الكراهية، فالخوف طاقة سلبية أو طاقة نفسية مرضية، وهذه الطاقة لا بد أن تجد لها متنفسا لتعبر عن نفسها، ولا بد للتعبير في أن يكون في صورة سلوك أو مشاعر من نسخ الطاقة المنتجة له، فكل فعل أو خلق سيئ يفعله الإنسان لا بد من أن تسبقه الكراهية، إما كراهية الإنسان لنفسه وإما كراهيته للآخرين، والكراهية بنت من بنات الخوف. ولو مضينا أبعد في داخل النفس الإنسانية لوجدنا أن الخوف حالة يعيشها الإنسان الفاقد حريته، فعندما تتراجع الحرية في أي مجتمع يشعر ذلك المجتمع بأنه أصبح ضعيفا وغير قادر على أن تكون له حقوق محفوظة، ومن هذا الشعور بالضعف يتولد الخوف وتنتج الكراهية. من أكثر المصائب التي تبتلى بها المجتمعات المستعبدة مصيبة الكراهية التي أنتجتها حالة الاستبداد القاسية التي كان يعيشها ذلك المجتمع، وعندما تتحرر هذه المجتمعات وتشعر بالكرامة وهي تستعيد حريتها فإن التحدي الأكبر الذي تواجهه هو كيفية التخلص من أكوام الكراهية التي أنتجتها وراكمتها في مرحلة الخوف التي كانت تعيشه. فعندما نرى مجتمعا يعاني مرض الكراهية علينا أن نعرف أن المجتمع أو الفرد يكتسب من الكراهية بمقدار ما يفقده من حريته.
2- المجتمع بين فائض القوة وفائض القيم والأخلاق: كل فائض قوة عند الإنسان يزيد من فرص فساده وخرابه إلا أن يقابل هذا الفائض في القوة فائض في القيم والأخلاق. فالمال والعلم والسلطة والقدرة كلها من مظاهر القوة، والإنسان بطبيعته وتبعا للدور الذي حباه الله به على هذه الأرض يسعى إلى الحصول عليها وامتلاكها، لكن مصادر القوة هذه تغري الإنسان بممارسة الفساد والظلم والطغيان، وبالتالي فهي في حاجة إلى قوة أخرى تقابلها وترشدها وتحفظ الإنسان من الوقوع تحت سيطرتها، وهذه القوة المكافئة هي قوة القيم والأخلاق.
ثقافة الكراهية تظهر في المجتمع عندما لا يكون هناك توازن وتعادل بين مظاهر القوة بأشكالها المتعددة والقيم والأخلاق، فعندما يكون هناك ثراء وفائض قوة لمصلحة المال والثقافة الاستهلاكية عندها يكون ذلك المجتمع ضحية لتسلط المترفين، "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا"، الآية رقم 16 ـ سورة الإسراء، وهل هناك قوة أكثر من هذه الكراهية التي تنتجها حالة الترف والطغيان في تدمير المجتمع وهلاكه وخرابه؟ وعندما تكون هناك فئة من الناس عندها فائض من القوة والسيطرة والتحكم في المجتمع وعندما لا يكون هناك في المجتمع فائض من القيم والأخلاق ما يصد هذه القوة ويحجمها ويعيدها إلى حجمها الطبيعي فإن الأمر ينتهي إلى تسلطن تلك الفئة، وحالة التسلطن تؤدي إلى الظلم والاستبداد، وهي كلها تخرب النفوس وتدفعها إلى الكراهية. صحيح أن المجتمع لا يتطور ولا ينهض بنفسه إلا بعد أن يراكم عنده أشكال متعددة من مظاهر القوة، لكن المشكلة تكمن في أن الفائض من هذه القوة يجلب على المجتمع الفساد وكل أنواع الشرور إن لم يقابلها فائض من نوع آخر وهو فائض القيم والأخلاق. القيم الإنسانية والأخلاق الربانية هي الكفيلة بترشيد ما يحصل عليه المجتمع من فائض قوة، فلا نستطيع أن ندفع الكراهية عن أي مجتمع وهناك حالة من اللا توازن بين القوة والقيم والأخلاق، ولعل الفائض من القيم والأخلاق يرفع المجتمع وينهض به حتى ولو كان هناك نقص أو عدم تكافؤ في جانب القوة، لكن المشكلة عندما تكون الغلبة لمصلحة القوة على حساب القيم والأخلاق، وهذه تكون البداية لانهيار ذلك المجتمع، وتكون الكراهية من أهم أسباب هذا الانهيار.
3- أدلجة الخطاب الثقافي: عندما يتعرض المجتمع إلى خطاب ثقافي مؤدلج فإن عوامل الفرقة تزداد قوتها ويشتد حضورها في ذلك المجتمع، فالأيديولوجية بطبيعتها توحي للإنسان بأن القضية التي يؤمن بها ويدعو لها قضية حق مطلق لا يشوبه باطل وأن الآخرين هم على باطل مطلق ومن دون أدنى شك في ذلك، وبالتالي فالخطاب المؤدلج يعطل العقلانية عند الناس ويدفعهم تحت ضغط العواطف إلى الاصطدام بالآخرين، وهل بالإمكان أن يكون هناك اصطدام وإقصاء وتهميش للآخرين من غير أن تسبقه كراهية لهؤلاء الآخرين؟ أشد مساوئ الخطاب الثقافي المؤدلج ثقافة الكراهية، وبالتالي على المجتمع أن يتجنب تحويل كل قضاياه إلى قضايا مؤدلجة، لأنه كلما زادت الأيديولوجيات في المجتمع وصار الخطاب الثقافي المنادي لهذه الأيديولوجيات هو الآخر خطابا مؤدلجا إقصائيا ومحتقنا صار هذا المجتمع أقرب إلى الكراهية والانقسام.
أخيرا، علينا أن نعرف أن المجتمع قد لا يقر بنفسه ويعترف بأنه مجتمع يعيش ثقافة الكراهية لأنه قد لا يعرف فعلا أنه يعيش هذه الكراهية، لكن على المجتمع أن يعي أن الكراهية تدخل من أبواب متعددة، وعندما تجد هذه الأبواب مفتوحة فإنها لا تسأل الإذن منه للدخول عليه، فهي تدخل وتدخل وقد لا يحس بها إلا بعد أن تمكنت منه وصارت ليست كراهية فقط، بل تولدت منها فتن وعنف وانقسامات، وعندها تصبح المسألة ليست فقط معالجة ثقافية، بل إعادة إنتاج للمجتمع والثقافة كلها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي