استقلال أم احتلال؟!
الخميس، يوم العائلة، الجو معتدلٌ والسماء غائمة، طقس يغري على الخروج للنزهة بصحبة الأسرة. يستعد أبو عمر لمثل هذا اليوم بفحص سيارته من المصد إلى المصد، وتكميل لوازم الرحلة وتوزيع المهام على الأولاد، عمر يدير المصروفات، وزيد مسؤول عن النظافة، وإيمان عن الغذاء، ويزيد عن تهيئة المكان، بينما يتمتعان هو وأم عمر بالإشراف العام على الرحلة.
يصعد الجميع إلى السيارة، وتبدأ الرحلة كالعادة بالسؤال التقليدي في كل مشروع نزهة عائلية: إلى أين المسير؟ أي مكانٍ تفضلون! عمر، بما عرف عنه من حسٍ قيادي، هو المبادر دائماً، يقترح واحة في شمال المدينة قد سبق وأمضت العائلة فيها وقتاً ممتعاً في إحدى الرحلات، أما زيدٌ فيقترح مسقط رأس والدته للتنزه، أما إيمان ويزيد فيتفقان مع والدتهما على مزرعة جارهم أبا سعد القريبة من المدينة. إذاً الأغلبية لبستان أبي سعد، وبقي على أبي عمرٍ أن يرجح الكفة بمنح صوته لأي من الأطراف.
حين وصل الدور إلى أبي عمر ليقدم اقتراحه، حدثت المفاجأة! ويمم السيارة في اتجاه لا علاقة له بأي من الخيارات المطروحة، وحيث كان توقيت الرحلة متزامناً مع موسم التمور، فقد كان لأبي عمر رأي قسريٌ فرضه على الجميع بدكتاتورية متجهاً لمهرجان التمور السنوي، ناسفاً بتصرفه المستبد قيمة تربوية في غاية الأهمية، هي قيمة الاستقلالية. وعلى الرغم من أن لهذا التصرف ما يبرره، إلا أن الفائدة المترتبة على تمكين الأولاد من بناء شخصياتهم وآرائهم بشكلٍ مستقل كان ذا أهمية كبيرة لبناء قدرتهم على اتخاذ القرار دون وصاية من أحدٍ عليهم، مما يجعلهم قادرين على خوض مصاعب الحياة ورسم مستقبلهم المهني وتحديد دورهم في البناء الحضاري بكل ثقة وتمكن.
إن هذا النموذج المختزل عبر هذه السطور، ليس صورة مستوردة من خارج مجتمعنا، وهو أمر يتكرر بأشكال متنوعة بين رب الأسرة وأولاده يوماً بعد يوم! يذهب والدٌ مع أولاده لمدينة الألعاب، وحيث إن الهدف ترفيهي، إلا أن بعض الآباء لا يدع لأولاده حتى مجرد حرية اختيار اللعبة! وهذا الأمر رغم بساطته في الظاهر، إلا أنه يجبر الأولاد على التبعية المطلقة بسلبهم حق الاختيار، والمهم في الأمر أن يتم بناء القاعدة الأخلاقية الأساسية للسلوك السوي لدى الأولاد، ومراقبة تصرفاتهم من بعد، وتهذيب سلوكياتهم تهذيباً متحفظاً وحذراً، دون المساس بمساحة الحرية النافعة لهم.
وتزداد أهمية تعزيز قيمة الاستقلال عند الأولاد في ظل هذا الزخم المعرفي والتقني الهائل، الذي أصبح يلعب دوراً كبيراً ومؤثراً إما بالسلب أو الإيجاب على تشكيل شخصية الطفل في مرحلة مبكرة من عمره، مما جعل إمكانية الاستغلال السلبي للأطفال أمراً في غاية الخطورة على المجتمعات، بشكلٍ يجعل من الصعوبة بمكان أن يتمكن المجتمع من التنبه لمؤشراتها، إذا كان متخماً بالتبعية وغير قادرٍ على الاستقلال.