ثقافة المرض (1 من 2)
يعيش الإنسان في هذه الحياة جملة من التحديات، ولا يختلف اثنان على أن المرض واحد منها، بل من أهمها وأشدها تأثيرا في حياة الإنسان. وقد لا يهتم الإنسان عموما بتعريف المرض كمرض بقدر اهتمامه بالأعراض المصاحبة له وبقدر انشغاله بالسؤال عن طرق العلاج منه. والإنسان يهتم بعلاج المرض أكثر مما يهتم بالوقاية منه، وإن كانت الحكمة تقتضي منا أن نولي اهتمامنا بأمور الوقاية أولا؛ لأن الأمراض كلها غير تلك التي ترتبط بآجالنا نُصاب بها إما نتيجة جهل وإما سوء تصرف في التعامل مع أبداننا، وإذا كان من الصعب أن نأتي بتعريف جامع وشامل لمفهوم الحكمة إلا أننا لا نختلف على أنها تعني الرشد والإحاطة في النظر إلى الأمور، وعلى هذا كانت الحكمة الطريق الموصل إلى النجاح والخير الكثير (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) - الآية رقم 269 - سورة البقرة.
الإنسان مُعرّض للإصابة بالمرض بمقدار ما تنقصه من حكمة في التعامل مع نفسه، فالإنسان الذي يعوزه مقدار من الحكمة قد يؤدي به هذا العوز إلى سوء تصرف أو سوء اختيار، وهذا ينتج منه الإصابة بمرض معين. لكن ما علاقة الثقافة بالحكمة؟ وهل بالإمكان أن يكون الإنسان حكيما وهو غير مثقف؟ وهل الثقافة بالضرورة تنتهي بالإنسان إلى الحكمة؟ الثقافة عند اللغويين تعني تعديل المعوج بالمطلق من الأشياء، وفي الفكر نعني بها تعديل وتقويم حتى ترشيد الرأي والنظرة. تثقيف الإنسان نفسه يعني عمله واجتهاده على تقويم وترشيد آرائه وأفكاره، فالإنسان المثقف دائما يتقدم مجتمعه ليشتبك مع الآراء الوافدة والأفكار الجديدة ليختبرها ويحدد درجة اعوجاجها والمقدار المطلوب من العمل لتعديلها وتقويمها، وقد يتطلب منه الأمر في بعض الأحيان، كما هو الحال في مجتمعاتنا، أن يرتد إلى الوراء وأن يسافر في الماضي ليخلص مجتمعه من بعض الأفكار والقناعات وربما حتى بعض الاعتقادات الباطلة التي تمنع هذا المجتمع من الحركة إلى الأمام والنهوض بنفسه. وما دامت الأفكار هي الطاقة التي تدفع بالإنسان والمجتمع إلى الحركة، والحركة هنا نعني بها الحياة الحقيقية، فإن الإنسان المثقف الحقيقي لا يهدأ ولا يستقر فهو في حركة دائمة، فهو بمقدار ما هو منفتح على ما تأتي به الحياة من أفكار جديدة فهو قايض في مراجعة مستمرة لما بين يديه من أفكار وقناعات ليعمل على ترشيدها وتطويرها لجعلها تلاحق الواقع الذي يعيشه. ومن هذا المنطلق أنيطت مهمة إصلاح المجتمع بالمثقفين. فالمثقفون هم المصلحون الحقيقيون للمجتمع، فإذا كان هناك مجتمع متخلف فعند البحث سنجد أن وراء هذا التخلف ثقافة متخلفة، والسبب إما لقلة عدد مثقفيه وإما لتراخيهم في أداء دورهم. المجتمع عموما ينصلح بمقدار ما عنده من مثقفين فاعلين، وإصلاح المجتمع مهما كانت درجة تأخره وتخلفه صناعة ثقافية أولا، لا بل إن المجتمع المحصن بثقافة حية قد يخسر معركة معينة، لكنه لا ينهزم ولا يفشل في النهوض من جديد، بل إن هذه الخسارة قد تزيد من قوته وتعزز ثقته بنفسه ويجعل من هذه الخسارة فرصة لينتج منها فرص جديدة ومكاسب وفيرة.
وتبقى الثقافة عاجزة عن أن تصل بالإنسان والمجتمع إلى الحكمة ما لم تحط نفسها بالقيم الإنسانية، فهذه القيم التي ليس على الإنسان البحث عنها، فهي قد استودعها الله في داخله، في فطرته، هي أدواته التي بها يعدل ويرشد ما يريد أن يأخذ به من أفكار ورؤى وقناعات. ومن هذه الزاوية نفهم أن هذه القيم ما هي إلا نوافذ وفتحات في جدار النفس الذي يطل بالإنسان على عالم الروح فيمر عبر هذه الفتحات النور الإلهي والفيوض الربانية التي يستهدي بها الإنسان في تعديل المعوج من أفكاره وآرائه قبل أن تصبح قناعات راسخة في نفسه. الثقافة العارية من القيم الإنسانية لا تأخذ بالإنسان إلى الحكمة، فالثقافة لا تأخذه إلى الحكمة إلا بمقدار ما يلبسها الإنسان بلباس هذه القيم، وعندها يتحقق له مقدار من الخير المطلق المخزون في الحكمة ما يكافئ ما في ثقافته من قيم إنسانية، (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)- الآية رقم 6 - سورة الانشقاق.
وهناك من المفكرين من لا يقبل بالثقافة النخبوية، فالثقافة عندما تنحصر في نخبة من المجتمع والبقية الباقية منه تعيش بلا وعي ثقافي فإن هذا المجتمع محكوم عليه بالتخلف؛ لأنه مجتمع لا يتفاعل مع ما يطرحه هؤلاء المثقفون، وبالتالي تبقى هذه الثقافة التي تملكها هذه النخبة ثقافة غير فاعلة وغير قادرة على تحريك المجتمع للنهوض بنفسه. ويضيف هؤلاء المفكرون أن النخبة المثقفة إن لم تكن مندمجة في نسيج المجتمع فإنها تكون غير محمية من مجتمعها، وهذا بالتالي يعرّضها لخطر القوى الأخرى الفاعلة اجتماعيا، التي تريد أن تبقي المجتمع مغيبا وغافلا عن قضاياه وهمومه وتحدياته ليسهل عليهم استغلاله والسيطرة عليه. فأكثر فئة اجتماعية تتعرض للترغيب والترهيب هي فئة المثقفين، ولا يُنقَذ هؤلاء المثقفون من هذا الابتلاء إلا وجود مجتمع واع يدرك أهمية الثقافة ويعرف جيدا دور الأفكار في تحريك مكامن القوة في المجتمع. هؤلاء المفكرون يرفضون مبدأ النخبة المثقفة ويتفقون مع غيرهم على أن الريادة يجب أن تكون للمثقفين، لكن مع وجود مجتمع عنده القدر الكافي من الثقافة والوعي. مشكلة أغلبية المجتمعات المتخلفة ليس في قلة عدد المثقفين، بل بسبب تردي الحالة الثقافية العامة في المجتمع. فقد يمتلك مجتمع ما موارد بشرية ومادية كثيرة ومتنوعة، لكن تنقصه الثقافة والنظرة الحكيمة في توظيف هذه الموارد بالشكل الصحيح، فالعالم المثقف أحسن وأفضل للمجتمع من العالم غير المثقف والتاجر المثقف أنفع لمجتمعه من التاجر غير المثقف، والمدير المثقف أنجح وأقدر من المدير غير المثقف، وأخيرا فإن المواطن المثقف أكثر مواطنية وأكثر التصاقا بهموم وطنه من المواطن غير المثقف.
في إطار هذا الفهم للدور المهم والحيوي للثقافة في حياة الإنسان والمجتمع، وبما أن المرض واحد من أهم تحديات الحياة التي على الإنسان أن يواجهها ويتعامل معها، فإن المطلوب منا كأفراد وكمجتمع أن نولي المزيد من اهتمامنا لمسألة تثقيف أنفسنا حيال المرض كمفهوم وكقضية لها دور كبير في تفاصيل حياتنا. في البداية لا بد من أن نتفق على أمور عدة، أولها تعريف المرض وماذا تعني هذه الكلمة، فالأمراض كلها تعني شيئا واحدا، لكن هناك مشكلات صحية متعددة ومتنوعة، لكنها هي غير الأمراض وإن كانت في الغالب هي التي تؤدي بالإنسان إلى الإصابة بالمرض. أما المرض عموما فهو نقص في طاقة الحياة، فالجسم عموما أو أي عضو فيه عندما تنقص الطاقة فيه يصبح مريضا أو معتلا وغير قادر على أداء وظيفته بالشكل الأكمل، وقد تنقص طاقة الحياة في الجسم إلى درجة تجعله غير قادر على صد ما يحيط به من فيروسات وبكتيريا وكائنات حية أخرى، وبالتالي يمرض هذا الجسم بسبب هجوم هذه الفيروسات عليه، فالمرض لم يأت بسبب هذا الفيروس، الذي هو ربما موجود ومحيط بالإنسان على الدوام، إنما كان نتيجة لضعفنا في صده بسبب نقص طاقة الحياة عندنا. وهناك أسباب عدة لحدوث النقص في طاقة الحياة، فقد يكون السبب إهمالنا أنفسنا وعدم إتاحة الفرصة لها لتجديد طاقتها، أو أننا استنفدنا ما عندنا من طاقة أكثر من قدرة أجسامنا في وقتها على تجديد طاقتها. مثلا يعتبر الأكل الزائد على حاجة الإنسان الحقيقية إرهاقا لأبداننا وجهازنا الهضمي وتعبا لأنظمتنا الحيوية، وهو بالتالي استنزاف لطاقة الحياة في أجسامنا، والاستنزاف بالتأكيد يؤدي إلى النقص، والنقص في الطاقة يؤدي إلى المرض. وأما المشكلة الصحية فهي غير المرض، لكن بقاء المشكلة على حالها من غير معالجة يؤدي إلى نقصان الطاقة ومن ثم المرض. السمنة مثلا مشكلة صحية باتت على شكل وباء في عصرنا الحاضر، فعندما يبتلى الإنسان بها فإنها تستنزف قدرا كبيرا من طاقة الحياة عنده، وقد يصل هذا الاستنزاف، إن بقيت السمنة على حالها أو زادت، إلى ضعف الإنسان ومن ثم مرضه. السمنة تعني زيادة هائلة في عدد خلايا الجسم، وهذه الخلايا الزائد تشكل عبئا وثقلا زائدا على الإنسان، وهي تحتاج إلى غذاء ورعاية ومداراة من غير أن يكون لها وظيفة أو فائدة للجسم، وبالتالي تستنزف من طاقة الإنسان أو ربما تأخذ من حصة الطاقة المخصصة والمطلوبة للأجزاء أو الأعضاء الأخرى في الجسم، وهكذا يحصل الضعف عموما وتضعف هذه الأعضاء ويحدث المرض.
ولما كان الإنسان متعدد الطبقات في وجوده فإن الإنسان في كل طبقة من طبقات وجوده معرض للمرض، فالجسد يمرض والعقل يمرض والنفس تمرض والروح أيضا تمرض، فكلها تمرض والسبب واحد وهو نقص الطاقة.. طاقة الحياة. والمهم أن نعرف وأن نثقف أنفسنا بكيفية حدوث مثل هذا النقص في الطاقة، فماذا يعني المرض النفسي وكيف يحدث نقص في الطاقة النفسية الذي يؤدي بالإنسان إلى الإصابة بالمرض النفسي؟ وكيف تمرض أرواحنا؟ وماذا يعني المرض العقلي؟ ويبقى المرض الجسدي الذي هو أكثر الأمراض التصاقا بالإنسان وإن كان ليس بأهمها، وربما الإصابة به تأتي كنتيجة للأمراض الأخرى النفسية والروحية.
حديثنا وباختصار سيكون وبشكل عام عن معنى ثقافة المرض، وكيف لنا أن نثقف أنفسنا على الأقل ببعض الأمراض التي باتت منتشرة في مجتمعنا حتى كادت تصل إلى حد الوباء. وللحديث تتمة.