تدهور الوضع المادي وتعطيل العقل عن العمل

عندما يكون الإنسان في حاجة إلى شيء يكون أكثر الكائنات إصرارا على الحصول على مراده، لأنه يستخدم العقل في رسم الخطط وتنفيذها بالطريقة التي يراها تكسبه ما يسعى لأجله. ولكن إذا لم يراع أو يحم هذه النعمة التي أؤتمن عليها وعطلها بالقلق المتواصل وعدم النضج الفكري، فإن مشكلته قد تكون سببا في نكسة قد تشتته وتدمره فيصبح يائسا فيفقد توازنه وقد يسقط متأثرا بما شتت فكره فيه. في الشهر الكريم شهر رمضان الماضي شوهدت مظاهر توحي بأن بعض الناس (من الجنسين) يقودهم قلقهم لتعطيل العقل بدلا من تشغيله والاستفادة مما يفكرون فيه لمصلحتهم. ولكن البعض الآخر لاحت عليه ملامح الفهم والإدراك فكان متحوطا وحذرا وحاذقا أحيانا. هاتان الفئتان توضحان أن ظاهرة الوعي ما زالت نسبية وتحتاج إلى مزيد من الدراسات.
في شهر رمضان الماضي بدا أن بعض الناس بدأوا في انتقاء ما يشترون من احتياجات متفادين مسائل مثل: الصلاحية، أو سلامة البضاعة من سوء التخزين، أو ملاءمتها في الاستخدام للعمر لبعض الأصناف، ولكن ما زالت مسائل مثل: مدى الحاجة لهذا الصنف أو الكمية المناسبة منه، وإدراك تنوع أساليب الشراء والبيع لمختلف الاحتياجات والبضائع، وغيرها.. نقاط تحتاج إلى دراية أكبر وتمحيص ليكون الفرد متفهما لكيفية إدارة دخله حسب المستطاع ويتمكن من الادخار لمواجهة الأزمات غير المقدرة أو المحسوبة التي أصبحت متعددة الوجوه والزوايا ومن الصعوبة التكهن بتوقيت ظهورها. للأسف من نتائج هذه الممارسات أن يقود الفرد نفسه للاقتراض، وبعد كل البهجة والسرور، يصبح في فلك آخر يدور، ويقترب من الفقر بتعاسته وعدم تشغيله عقله في أهم الأمور.
لا شك أن الفقر في حد ذاته ليس بعيب إذا حافظ الإنسان على نفسه بعدم مد يده للسؤال وتفادي أن يكون محل شفقة الآخرين أو كان معوقا ولم يجد من يعينه على بلواه الخارجة عن إرادته. ولكن أن يقوده تفكيره لأن يصبح ويظل فقيرا من دون بذل جهد كاف للتغيير؛ فعندها يكون السعي لتعديل الوضع المادي مسألة ضبابية. هنا أتساءل: ما الأسباب والعوامل التي يكرسها الفرد في نفسه فيظل فقيرا لا يستطيع مساعدة نفسه ولا يستطيع غيره مساعدته؟ وما مدى العلاقة بين تشغيل العقل واستقرار الوضع المادي؟ الأسباب كما وردت في النشر العلمي عديدة أهمها: (1) الانصراف عن التعليم؛ حيث يكتفي الفرد بشهادة متدنية المستوى ولا يكون لديه الوازع لفهم حياته والعيش فيها بطريقة أفضل أو ذكية. (2) عدم القدرة على الادخار بالانصراف عن التفكير في ذلك وتبرير الصرف والأفعال بأوهى التبريرات، (3) القيام بأفعال غير سوية تؤدي إلى دخول السجن، مما يضيع معها سيرته ويدخل عائلته في دائرة الديون وبابتعاده عن العمل يؤثر في مستوى الخبرة والمنافسة مع الغير، (4) استسهال الاقتراض والتهرب من السداد بحجة أو بغير حجة، (5) التكاسل في البحث عن الوظيفة والاعتقاد أن هذا من شأن الدولة أو شأن الآخرين للمساعدة، (6) الاستمرار في وظيفة متدنية المستوى وعدم البحث عن وظيفة أفضل بمميزاتها والعمل على ذلك بالتدريب، (7) التخاذل عن محاولة اكتشاف أي مهارة أو قدرة شخصية تجعل الفرد يعتمد على نفسه في تحسين وضعه المادي والاجتماعي، (8) الرضا بالعيش في مجتمع أو مجموعة محبَطة ومحبِطة دون التفكير أو القيام بعمل إيجابي يخرجه من هذه الدائرة، (9) الاستمرار في الإنجاب من دون استشارة أهل العلم سواء الطبي أو الشرعي لإعادة التوازن لحياته. (10) حب الظهور بما يفوق مستوى المعيشة ومستوى الدخل، (11) وأخيرا المعاقرة والمقامرة وإدمان المخدرات التي إذا ما استمر متعاطيها على السير في هذه الطريق فهو يصر على التسبب في ضرر نفسه ومن يعول؛ فتكون النهاية غير محمودة.
مع أن الإحصاءات المتوافرة عن هذه الأسباب وعلاقتها بتدهور وضع الفرد ماديا غير دقيقة إلا أن الدراسات العلمية في كثير من المجلات العلمية المرموقة شملتها ولكن لم تحدد ترتيبها وأولوية المعالجة في الظروف المختلفة، وأعتقد أن الأوان قد حان لوزارة الشؤون الاجتماعية أن تقود فريقا من الجهات الأخرى لرسم الخطوط العريضة ابتداء من التثقيف المقنن وحتى الردع الإجباري، للحفاظ على كيان الأسرة قائما وضمان إعطاء فرصة ثانية للتحسين والتعديل. أما نحن كأفراد فلا بد أن نشغل العقل بطريقة تقودنا لحياة كريمة مهما تفاوت مستوى معنى هذه العبارة.
إن إجراء دراسة ميدانية علمية ومنهجية (لا صحفية) سيحدد حجم ودرجة ارتباط تدني الوضع الاقتصادي بتشغيل العقل لتوخي الوقوع في المشكلات والخروج من المآزق إن وقعت. كما أنها ستجعلنا نحصر أهم العوامل وترتيبها حسب الأولوية وماهية سبل العلاج الممكنة لمجتمع يعيش فترة انتقالية اقتصادياً. هذه الدراسة لا بد أن يصممها اقتصاديون واجتماعيون ونفسيون في آن واحد وقد يساعدهم بعد ذلك الشرعيون وبعض المتخصصين في النواحي الأمنية لجعلها دراسة وطنية تبحر بنسبة كبيرة من المجتمع لبر الأمان هم والجيل القادم ونحقق إنجازا على المستويين الاجتماعي والاقتصادي على السواء. كما أن نتائجها ستكشف لوزارة التجارة جانبا مهما عن وضع وسلوكيات المستثمرين في السوق خلال المواسم فتكون الاستجابة سريعة وفاعلة بشكل إيجابي - بإذن الله، والله المستعان.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي