موارد ومواقع

مر تجميع الثروات، عبر التاريخ الحديث، بمراحل متشابهة إلى حد كبير، حيث تعتبر الإيرادات الريعية من أهمها. شكّل "الريع" مكونا حيويا في المداخيل العامة والخاصة للدول والأفراد. عرّفه ابن خلدون، على أنه "كسب" بمعنى أنه إيراد دون سعي أو عمل، مميزا إياه عن "الرزق" الذي يتطلب جهدا، بينما ذهب علم الاقتصاد إلى اعتباره إيرادا إضافيا لا يتطلب كفاءة أو احترافية تسويقية. في الإطار نفسه توصف الدولة الريعية، بأنها التي لا تعتمد على مواردها من الضرائب التي تفرضها على مواطنيها.
لطالما شكَّل العقار المصدر الرئيس للإثراء في أوروبا الإقطاعية. كان الاحتكار والمصادرة، من ضمن الأساليب التي لجأ إليها نبلاء البلاط وكبار الإقطاعيين لزيادة رصيدهم من الأراضي والعقارات. استخدمت الإيرادات المتأتية من تلك المصادرات، في بناء المزيد من القصور والبيوت الفخمة؛ مما أدى إلى تضخم هائل في الأسعار. بيد أن الثورات المتلاحقة في أوروبا، من الثورة الفرنسية إلى ثورة كرومويل الإنجليزية، أطاحت بامتيازات تلك الطبقات وبالتالي تقلصت مساهمة إيرادات الريع العقاري في الاقتصادات الأوروبية. كما أن أهمية الريع الزراعي العقاري، تقلصت مع تطور التصنيع وتحولت أوجه المعادلة ليصبح الإيراد من الاختراع والتكنولوجيا رافدا مهما لموارد غالبية بلدان أوروبا والعالم المتقدم.
شهد العالم العربي، بحسب الدراسات التاريخية والاقتصادية، الكثير من المتغيرات في الدول التي خضعت للسلطنة العثمانية. فقد تغير الشكل الاقتصادي، بعد انفصالها عن هيمنة العثمانيين. لكن بقي الإيراد الريعي، هو المسيطر على مفاتيح الإيرادات الرئيسة للدولة. حتى أن أغلب الصراعات في القرن العشرين كانت بهدف الاستيلاء على مصادر الثروة، من موارد طبيعية ومواد خام؛ ممّا يفسّر الانقلابات العسكرية المتكرّرة في الخمسينيات والستينيات، إضافةً إلى العنف والتوتر داخل المجتمعات العربية. من جهة أخرى، لا تزال التقارير الواردة عن المؤسسات الدولية الاقتصادية، تؤكد أهمية العالم العربي، من باب أنه فقط "موارد ومواقع". أي أنها ترفض الاعتراف بأية مساهمة تنموية لتلك البلدان في الحضارة البشرية، عدا ما حصلت عليه مجانا من الطبيعة.
في إطار الحديث عن الريع، ارتهنت الدول العربية النفطية وغير النفطية، بالنفط وتقلبات أسعاره؛ الأمر الذي حول الكثير من وجهات الإثراء لأن تكون، من خلال الإقامة في هذا أو ذاك من البلدان المصدّرة لتلك المادة . ضف إليه أن تدفق التحويلات من المهاجرين قد تحول إلى مصدر ريع رئيس للاقتصادات العربية المصدرة لليد العاملة.
من جهة أخرى، أدى الإثراء السريع للعديد من الأفراد المستفيدين مباشرةً أم بصورةٍ غير مباشرة، من الريع النفطي إلى انفجار الريع العقاري في العواصم والمدن الرئيسة العربية. كما أن عامل تزايد السكان صب في صالح ارتفاع المردود من قطاعي العقار والأراضي. أيضا من المصادر الريعية الأخرى ما بات يعرف بالمساعدات الخارجية السنوية لبلدان كمصر والأردن.
إن جزءا كبيرا من تراجع مستويات التنمية في المنطقة العربية يعود إلى الاعتماد المفرط على مصادر الريع المذكورة، بحيث صار النمو مرتهن بتطور الريع أي مداخيل النفط والمساعدات الخارجية وتحويلات المغتربين. كما أن معظم تلك الأموال ذهب إلى توظيفات مالية وعقارية في الخارج. أو تم صرفه على كماليات باهظة. لكن الخطأ الرئيس لا يمكن إلا تحميله على طريقة إدارة توزيع تلك المداخيل واستخدامها الأفضل لرفع الكفاءة لدى الشعوب.
يبقى للتذكير، أن أهم ميزة للدولة الريعية، تحررها السياسي؛ لأن استقلالها الضريبي يؤدي إلى استقلال سياسي، فهي لا تخضع إلى محاسبة مواطنيها طالما لا تفرض عليهم ضرائب؛ لذلك يصبحون خارج دائرة المشاركة السياسية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي