قبل فوات الأوان.. المنشآت الصغيرة والمتوسطة

تتملكني الحيرة والألم عندما يأتي الحديث عن الوظائف والبطالة والنمو الاقتصادي، والحيرة تأتي من أن هناك مسلّمات يعيها ويفهمها عامة الناس وخاصتهم في أن قطاع المنشآت الصغيرة والمتوسطة تمثل عصب الاقتصاد، وهي الحل الذي ينشده أصحاب القرار السيادي في سبيل حل المشكلات التي يعانيها اقتصادنا، هذه التحديات التي بدأت منذ بداية خطط التنمية الخمسية في المملكة، والتي تنص على أن من أهم أهداف خطط التنمية في المملكة دعم التنوع الاقتصادي والخروج من بوتقة الاقتصاد الأحادي المنتج، وصولا إلى مشاكل البطالة في أوساط الشباب السعودي والتي أصبحت حديث العامة والخاصة في السنوات الأخيرة. رغم أن السنوات الأخيرة تعتبر سنوات طفرة اقتصادية ووفرة مالية، ومع ذلك نعاني من البطالة!! عجبي.
والألم في أننا رغم هذا الحديث الطويل، لم نر تحركا حقيقيا لدعم هذا التوجه وأصبح شغلنا الشاغل هو كيف نوطن الوظائف لا كيف نوجدها، وكتبنا وكتب غيرنا كثيرا في هذا السياق، ولكن لا حياة لمن تنادي. فقطاع المنشآت الصغيرة والمتوسطة رغم أهميته الاقتصادية والاجتماعية والأمنية أصبح يدور في فلك المحاضرات والتمويل وكأننا في دولة تعاني شحا في الموارد المالية، وإننا إذا استطعنا حل مشكلة التمويل فإننا أمام نمو اقتصادي غير مسبوق لقطاع المنشآت الصغيرة والمتوسطة!!، وهذا حديث أعتبره بعيدا كل البعد عن الواقع، فالواقع يقول إن تلك المنشآت لديها التمويل الكافي، ولكن الإشكالية هي تكاليف الإنشاء والاستمرارية، ولعل الدراسات الكثيرة المنشورة حول هذا القطاع تثبت أن النسبة الكبرى من تلك الشركات تغلق في سنواتها الثلاث الأولى، ومن واقع معايشة لواقع تلك المنشآت فإني أستطيع القول إن الأسباب تتركز بلا حصر في تكاليف الإنشاء والقدرة على المنافسة، إضافة إلى أسباب أخرى تتعلق بالإدارة والتمويل، وأعتبر السببين الأخيرين أقل أهمية من تكاليف الإنشاء وصعوبة المنافسة أمام منافسين (متسترين) يملكون التحزبات الكافية لإضعاف أي قادم جديد للسوق، والحديث هنا ذو شجون.
ومع احترامي لجميع الجهود الموجودة على الساحة، إلا أنها مع الأسف لم تحل الإشكالية الحقيقية، والسبب من وجهة نظري بسيط جدا، غياب المرجعية، فلجان الغرف التجارية المختصة في المنشآت الصغيرة والمتوسطة لا تملك الشرعية لدفع ذلك القطاع وتعمل في نطاق ضيق يحكمه ما يحكمه من الأسباب!! والجهود التطوعية في هذا المجال تفتقد لمن يسمع صوتها، والجهود التمويلية تمثل حلولا متخصصة في التمويل والتدريب والمتابعة، وليست في مقام الحلول الجذرية أو التشريعية؛ ولذلك فإن الحل في مرجعية حقيقية عملها متخصص في مجال المنشآت الصغيرة والمتوسطة، حالها كحال المنشآت أو الهيئات المتخصصة في قضايا تهم قطاعات معينة في الاقتصاد، كهيئة الاتصالات في مجال الاتصالات وهيئة الإسكان في قطاع الإسكان والأمثلة كثيرة، فلماذا لا يوجد لدينا هيئة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة!! وهذا أبسط الأدلة على جدية التوجه في التعاطي مع هذا الملف، أما خلاف ذلك فهو حل منقوص لم ولن يوصلنا إلى النتائج الحقيقية. وهنا نسوق بعض الأمثلة على ما يمكن أن تقوم به تلك الهيئة لحل بعض المشكلات الحقيقية، وهذه الأفكار ليست مستحيلة التطبيق؛ لأنها طرحت من قبل، ولكن ليست موجهة لقطاع المنشآت الصغيرة والمتوسطة.
وجود مركز خدمة شاملة يوجد فيهه مكاتب لجميع القطاعات الحكومية في سبيل تسهيل إجراءات تسجيل وعمل القطاعات الصغيرة والمتوسطة، ولدينا تجربة حقيقية على مثل هذه المكاتب في الهيئة العامة للاستثمار، وهي فكرة رائدة لتسهيل عمل المستثمر الأجنبي، وإذا كانت هذه التجربة ناجحة فما الذي يمنع من إيجاد مراكز وليس مركزا واحدا فقط لخدمة شباب المنشآت الصغيرة والمتوسطة.
إيجاد حوافز استثمارية حقيقية لهؤلاء الشباب لتقليل تكاليف الإنشاء والتشغيل، وهذه الحوافز تشمل على سبيل المثال لا الحصر استثناء من السعودة لمدة خمس سنوات أو إعطاء نسبة إعفاء 75 في المائة في أول ثلاث سنوات تتناقص إلى 30 في المائة خلال خمس سنوات، وهذه النسب قد تتم دراستها لوضع التصور الأفضل، حتى نعطي تلك المنشآت الفرصة لمواجهة المنافسة ولتقليل تكاليف التشغيل التي تقف على أقدامها. ولدينا هنا تجربة فيما أقره مجلس الوزراء من إعطاء حوافز للاستثمار في المناطق الأقل نموا، أليس من الأجدى إعطاء تلك الحوافز لشباب المستقبل والتفكير على مدى طويل. الحوافز قد تصل إلى إعفاء من الرسوم الحكومية لمدة زمنية يتم الاتفاق عليها، إمكانية إعطاء حوافز ذات علاقة بالزكاة، إعطاء نسب تفضيل في المشاريع الحكومية، أو إعطاء نسب تفضيل في المشاريع التي تقع في المناطق الأقل نموا، والمجال مفتوح لأفكار كثيرة تساعد في دعم تلك المنشآت من دون التأثير علي الصورة الأكبر للاقتصاد.
ختاما، الحل بأيدينا لرسم مستقبل اقتصادي واجتماعي مشرق، وأتمنى أن نرى تحركا حقيقيا يحمل حلولا حقيقية لهذا التحدي، وأدعو الله ألا نجد أنفسنا في يوم نندم على إضاعة تلك الفرصة بما يخدم رفعة وطننا الغالي ورفاهية مواطنيه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي