الحج والسلوك الحضاري
ليس هناك تجمع من أي نوع وفي أي مكان يمكن أن يقارن بلقاء المسلمين في أيام الحج، هذا التجمع المبارك الذي يأتي إليه الناس من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم وعلى رأسها وأهمها أن يعود الإنسان كيوم ولدته أمه عندما يؤدي الفريضة دون رفث أو فسوق أو جدال في الحج.
إن إبراز السلوك الحضاري الإسلامي من خلال أداء شعيرة الحج يعد أهم رسالة يمكن للمسلمين أن يرسلوها للعالم أجمع خصوصاً عندما نعلم أن كل القنوات الفضائية ووسائل الاتصال المختلفة تراقب وتتابع ما يجري على أرض وصعيد المشاعر المقدسة من انطلاق الحجاج إلى مكة وحتى مغادرتهم لها. وتختلف نظرة المراقبين لهذا الحدث العظيم بين مقدر ومعظم لهذه الشعيرة وبين حاسد وكاره لهذا التجمع الإسلامي العظيم.
إن دورنا كأمة إسلامية أن نبرز عظمة هذا الدين من خلال التزامنا بالسلوك الإسلامي الحضاري ويأتي على قمة هذا الالتزام احترام وحرص بعضنا على بعض وإظهار روح التسامح والعطاء والإيثار وتقديرنا للفروقات الثقافية والاجتماعية والعمرية والقدرات، حيث يعين قوينا ضعيفنا، وصغيرنا كبيرنا ورجلنا امرأتنا ونكون كما وصانا رسولنا ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقوله ''مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى''.
إن هذه الدعوة النبوية الكريمة هي أبرز ما يمكن الأخذ به لإظهار هذه الشعيرة الإسلامية العظيمة التي تكون منطلقنا لتعزيز رسالة الإسلام وتأكيد أنه صالح لكل زمان ومكان وأن مسؤوليتنا جميعاً هي تحقيق وصول رسالة الإسلام من خلال شعيرة الحج وإبراز سلوكنا الحضاري الإسلامي المتميز.
إن أي سلوك مشين يسيء لهذه الشعيرة ثم يسيء للإسلام بشكل عام سواء كان هذا السلوك فرديا أو جماعيا، منظما أو غير منظم، سيبقى أثره السلبي نقطة سوداء في جبين وعمل كل من كان سببا في ذلك العمل المسيء للإسلام وشعائره العظيمة.
إن تضامننا كأمة إسلامية للعمل من أجل تعزيز ودعم الصورة الذهنية عن الدين الإسلامي سيقودنا بإذن الله سبحانه وتعالى إلى قيادة العالم ليس من خلال الدسائس والحروب والفتن والقتل والتدمير ولكن من خلال السلوك الإنساني الحضاري الراقي الذي يقدر لكل عامل عمله، ولكل تصرف أو فعل أثره الإيجابي والسلبي على حقوق الآخرين.
إننا كمسلمين اليوم مطالبون أكثر من أي وقت مضى في توحيد الجهود والعمل بكل إخلاص للحاق بالأمم المتحضرة، خصوصاً وأن العالم اليوم يعاني من فراغ نفسي وعاطفي وتغيب فيه القيم الإنسانية الحضارية السوية وهو في أمس الحاجة إلى وجود القدوة الإنسانية الصالحة لإعادة التوازن بين البشر، وهذا الأمر لا يمكن تحقيقه من خلال المظاهرات أو الإساءة لبعضنا بعضا أو من خلال التصرفات الهوجاء التي يقودها الغوغائيون ممن يندسون بيننا ويحاولون التحدث باسم الدين الإسلامي وهم من أكبر أعدائه.
إن التحدي الحقيقي الذي يجب الانتباه له وعدم الاندفاع خلفه هو وجود فئة تدعي أنها تنصر الإسلام وأهله وهي في الواقع تهدف للإساءة للإسلام مع سبق الإصرار والترصد لأسباب وأهداف كثيرة وقد أوضحها لنا رسولنا ـ عليه الصلاة والسلام ـ من صفاتهم بقوله ''يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وأعمالكم مع أعمالهم، يقرؤون القرآن ولا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، تنظر في النصل فلا ترى شيئاً ثم تنظر في القدح فلا ترى شيئاً، ثم تنظر في الريش فلا ترى شيئاً، وتتمارى في الفوق''.
إن هذا الوصف النبوي الكريم لهذه الفئة التي تسعى للإساءة للإسلام وأهله وتستغل الدين والشكل الظاهري له من خلال تصرفاتهم هم من يسعون للإساءة لنا جميعاً، وواجبنا أن نحذر منهم ونحذرهم ولا نجعل لهم علينا طريقا أو أن نترك لهم فرصة لأخذ زمام الأمور ونجعل أمرنا في عقلائنا من العلماء والحكماء وأصحاب الرأي.
إن واجبنا جميعاً العمل على جعل شعيرة الحج وما تتطلبه من أعمال وأقوال وتصرفات رسالتنا الحضارية للعالم أجمع ونؤكد على الرسالة الإعلامية التوعوية الواعية إلى تعزيز السلوك الحضاري في الحج ونتذكر جميعاً أن ''الحج عبادة وسلوك حضاري''.
تقبل الله من الحجاج حجهم وسعيهم وصالح أعمالهم وأعادهم الله إلى أهلهم وذويهم سالمين غانمين، وبارك الله في جهود كل من يعمل لخدمتهم وجعل عمل الجميع خالصاً لوجهه الكريم، والله من وراء القصد.
وقفة تأمل:
فلله ذاك الموقــف الأعظم الــذي
كموقف يوم العرض بل ذلك أعظم
ويدنـــو بــــه الجبــار جـل جلالــه
يبــــاهي بهــــم أملاكــــه فهو أكرم
يقـــول عبـادي قـــد أتونــي محبـة
وإنـــــي بهـــــم بــر أجــود وأكـرم
فــأشهدكــم أنــي غفــرت ذنوبهـم
وأعطيتهــم ما أملـــــوه وأنعـــم
فبشراكم يا أهل ذا الموقف الذي
بـــه يغفــــر اللـــه الذنــوب ويرحـم