الصورة الذهنية عن الموظف الحكومي

هناك صورة ذهنية تبلورت ورسمت وعززت خلال سنوات طويلة عن الموظف الحكومي، أنه موظف غلبان ولا يعمل، وإن عمل لا ينجز، وإذا أنجز فلا بد أن يصاحب هذا الإنجاز مصالح خاصة ورشاوى، وعزز من هذا التصور السلبي للموظف الحكومي الأفلام، وخاصة الأفلام المصرية خلال العقود الماضية وأبرزت دوره وعطاءه وإنجازه بشكل هامشي.
الصورة النمطية الذهنية عن الموظف الحكومي أو الحكومية تبرز في الذهن عند مشاهدة تلك السيدة المتذمرة من العمل وكثيرة الشكوى منه، ومع أنها لا تعمل طوال ساعات العمل إلا في تقطيع البصل أو تقميع البامية أو تنتيف الملوخية، كل هذه الأعمال المنزلية لا تتم في المنزل كما يصورها الفيلم، وإنما على طاولة مكتب العمل.
الصورة الذهنية الأخرى هي لـسي السيد وهو يفتح درج مكتبه لكل قادم لطلب إنجاز عمل لتقديم ما تسخو به نفسه من هدية أو عطية أو مكافأة، وكلها لا تعدو كونها رشوة ليقدمها صاحب الحاجة لهذا الموظف من أجل إنجاز عمله.
الصورة النمطية الذهنية الثالثة التي ترسم في ذهننا عن الموظف الحكومي هي أنه يحب أن يكون فقيرا ولا يركب إلا على الحمير، ولا يلبس إلا الخشن من الملابس؛ لأنه موظف حكومي والموظف الحكومي يجب ألا يكون له دخل إلا راتبه البسيط الذي لا يغطي أكثر من 40 في المائة من احتياجاته الضرورية وبناءً عليه فلا يستطيع أن يعلّم أبناءه من الجنسين في المدارس والجامعات الخاصة ولا يسكنهم في مساكن راقية أو حتى مقبولة.
هذه الصورة الذهنية النمطية عن الموظف الحكومي دفعت بالبعض منهم، وخصوصا المميزين إلى ترك العمل في الحكومة والبعض الآخر إلى أن يسلك مسلك التقية، حيث يركب السيارة البسيطة للعمل والسيارة الفارهة خارجه، ويلبس الرث من الثياب للعمل والأنيق والفاخر خارجه، وغيرها من مظاهر وأساليب لا تعزز من الثقة في الموظف الحكومي ولا تعزز من ثقته بنفسه ولا تجعل من العمل الحكومي جهازا جاذبا للكفاءات والمتميزين والمثابرين والعصاميين.
إن الموظف الحكومي، ووفقا للنظام، يستطيع أن يبيع ويشتري في العقار ويبيع ويشتري في الأسهم وغيرها من مصادر الرزق الأخرى إذا كان عمله لا يتعارض معها فيما يتعلق بالمعلومات أو المصالح أو غيرها مما هو معلوم من ضوابط وأنظمة، ومثل هؤلاء الموظفين في الغالب نجدهم من المتميزين في أعمالهم الحكومية؛ لإحساسهم بأهمية العمل والإنجاز والعطاء.
لا أختلف مع البعض أن هناك تجاوزات وفسادا مباشرا وغير مباشر ضمن عمل بعض الإدارات الحكومية أضعف النظرة لكل الإدارات الحكومية وجعل جميع الموظفين الحكوميين في نظر الجميع فاسدين ومرتشين، وهذا الإحساس من الطرفين عززه إصرارنا الإعلامي والمجتمعي على ترسيخ هذه الصورة الذهنية عن الموظف الحكومي بشكل عام، وجعل من المؤسسة الحكومية جهازا طاردا وغير مستقطب للكفاءات في مختلف التخصصات.
إن تأثير النظرة والصورة الذهنية عن الموظف الحكومي واتهامه المطلق بالفساد المباشر وغير المباشر عزز من عزوف الكفاءات السعودية في مختلف التخصصات من الاتجاه للعمل في هذا القطاع الحيوي، وجعل بعض من يعمل في هذا الجهاز يؤمنون بحقيقة أنه جهاز فاسد وأن العاملين فيه مهما حاولوا الإصلاح والتطوير متهمون بالفساد، وأن الحكم صادر قبل المحاكمة - كما يقولون - وعلى هذا الأساس فلا حاجة للإصلاح وربما الأفضل تحقيق هذه النظرة والصورة الذهنية عن الموظف الحكومي.
لقد أثبتت الأحداث العالمية المتلاحقة، وخصوصا المشاكل الاقتصادية، أهمية تحقيق التكامل والتوازن بين قطاعات الدولة، وأن أي ضعف في أحدها هو إضعاف لبقية القطاعات، وأعني هنا قطاعات الدولة الرئيسة، وهي القطاع الحكومي والقطاع الخاص والإعلامي والأكاديمي والمجتمع المدني؛ فتكاملها ودعمها بشكل متوازن ضرورة تنموية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والأمني للدولة ككل.
إن الجهاز الحكومي اليوم يحتاج منا جميعا إلى التفاتة صادقة تتطلب أولا إعادة الثقة في من يعمل فيه ونذكر لهم حسن الأداء من خلال ما نعيشه - ولله الحمد - من نعمة الاستقرار الأمني الذي يقف خلفه موظفون حكوميون، وتنمية اقتصادية واجتماعية في مختلف مناحي الحياة، شارك ويشارك في تحقيقها الموظف الحكومي، وفي الوقت نفسه نحدد مواطن الخلل والضعف في هذا الجهاز وموظفيه ونعمل على معالجتها؛ حتى يعود الجسد سليما معافى يخدم وطنه بكل محبة وإخلاص.
إن استمرار النظرة السلبية عن الموظف الحكومي والتأكيد على أن نصف الكأس ''فاضي'' لن يزيد الوضع إلا سوءا، واستمرار هذه النظرة السلبية سنعززها في ذهن وسلوك وعمل وتصرف الموظف الحكومي ولن نجني منها أي تطوير أو إصلاح للعمل، ويحضرني في هذا الشأن قصة ذلك الطفل الذي لم يبلغ السنتين عندما داعبه أحد أقاربه بقوله ''سلطان الشيطان'' على أساس أنه كثير الحركة واسمه سلطان والطفل اليوم يتجاوز الثامنة من العمر وما زال كثير الحركة والمشاغبة، وعندما يحاول أحد أفراد أسرته توبيخه أو نصحه يكون رده المباشر هو أنتم من قال عني إنني ''سلطان الشيطان'' فلا تتوقعوا من الشيطان إلا كل خراب.
آمل أن تكون الرسالة واضحة وأن يكون هدفنا جميعا العمل من أجل نجاة السفينة؛ حتى لا تغرق ونغرق معها جميعا، وللحديث بقيه - إن شاء الله .

وقفة تأمل:
إن الذي رزق اليسار فلم يصب
حمدا ولا أجرا لغير موفق
وأحق خلق الله بالهم امرؤ
ذو همة عليا وعيش ضيق

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي