وسائل الإثبات أمام هيئة التحكيم (2)
تملك هيئة التحكيم ـــ كالمحكمة ـــ اتخاذ ما تراه من وسائل الإثبات ـــ بشرط أن تكون الوقائع المراد إثباتها متعلقة بالدعوى (منتجة وجائز) قبولها ـــ كما تملك هيئة التحكيم العدول عما أمرت به من وسائل إثبات إلى غيرها بشرط أن تبين أسباب ذلك، على النحو الذي تقدم بمقالنا السابق المتعلق بإلزام أحد أطراف الدعوى بتقديم مستند تحت يده، إذا كان هذا المستند منتجا فيها ومقبولا شرعاً.
ولهيئة التحكيم أن تستخلص قضاءها من جميع طرق الإثبات التي أمرت بها، وما يكون بملف الدعوى التحكيمية من مستندات وقرائن، وذلك طبقاً لنص المادة (29) من اللائحة التنفيذية لنظام التحكيم الصادرة بقرار مجلس الوزراء رقم 7/2021/م وتاريخ 08/09/1405هـ والمتضمنة أنه ''لهيئة التحكيم أن تأمر بوسائل التحقيق المنتجة في الدعوى... ''. دون تحديد أيٍّ من هذه الوسائل التي تلتزم بالأمر به.
ومن وسائل الإثبات التي يجوز لهيئة التحكيم الأمر بها أيضاً انتداب خبير أو أكثر لبحث مسألة فنية، طبقاً لما هو منصوص عليه في المادة (33) من اللائحة التنفيذية لنظام التحكيم والتي تضمنت ''لهيئة التحكيم عند الاقتضاء الاستعانة بخبير أو أكثر لتقديم تقرير فني بشأن بعض المسائل أو الوقائع الفنية والمادية المنتجة في الدعوى''، وقد تطلب النظام أن تكون المسائل التي تُسند إلى الخبير لبحثها مسائل فنية أو مادية، وأن تكون مُنتجة في الدعوى، على أن يكون واضحاً، أن انتداب الخبراء في الدعوى التحكيمية قد يكون بناءً على رغبة هيئة تحكيم مستقلة أو بناء على طلب أي من طرفي الدعوى.
وتعتبر أعمال الخبرة من قبيل المعاينة التي تتم بغير واسطة هيئة التحكيم، إذ تتم بواسطة خبير فني متخصص في الواقعة المراد بحثها وإعداد تقرير بشأنها، ويؤكد الواقع العملي أهمية الخبرة كوسيلة من وسائل الإثبات عن غيرها من الوسائل الأخرى، إذا يتوقف الفصل في الدعوى على رأي الخبير المنتدب وما ينتهي إليه تقريره ، وتزيد أهمية ذلك إذا كانت أدلة الإثبات الأخرى ــــ غير الخبرة ــــ غير قاطعة أو كافية في إثبات أو نفي الحق.
وقد تطلب نظام التحكيم أن تُصدر هيئة التحكيم قراراً بانتداب الخبير، وأن يُحدد فيه طبيعة المهمة المسندة إليه والإجراءات التي يجوز له اتخاذها، والمدة المحددة لتقديم تقريره، والتدابير العاجلة التي سُمح له باتخاذها، وذلك على النحو المنصوص عليه في المادة (33) من اللائحة التنفيذية لنظام التحكيم والتي نصها ''لهيئة التحكيم.. أن تذكر في منطوق قرارها بياناً دقيقاً لمأمورية الخبير والتدابير التي يؤذن له في اتخاذها''، ويهدف هذا إلى عدم خروج الخبير عن حدود الدعوى التحكيمية أو تبديد جهده وعمله في أمور لا ترغب هيئة التحكيم في بحثها، مما يترتب عليه إطالة مدة عمله ومن ثم يؤدي ذلك إلى تأخير الفصل في الدعوى التحكيمية.
ويبدأ الخبير تنفيذ المهمة الموكلة له من هيئة التحكيم بعد استكمال الإجراءات اللازمة لذلك وأخصها إيداع أتعابه وتحديد الطرف المُلزم بسدادها، ومبلغ الأمانة الذي يودع مقابل مصروفات الخبير، فإن لم يتم ذلك فلا التزام على الخبير في أن يشرع في تنفيذ مهمته، وللخبير أن يدعو الخصوم أو غيرهم لسماع أقوالهم وتقديم تقريره في المدة المحددة، ولهيئة التحكيم مناقشة التقرير المُقدم منه، كما لها تكليفه بتقديم تقرير تكميلي لتدارك أي نقص أو قصور فيه، وتبين هيئة التحكيم مهمة وعمل الخبراء حال تعددهم سواء كانوا منفردين أو مجتمعين وذلك على النحو المنصوص عليه في المادتين (33) و(34) من اللائحة التنفيذية لنظام التحكيم إذ تضمنت الأولى''.. وللخبير عند أدائه المأمورية سماع أقوال الطرفين أو غيرهما، ويقدم تقريراً بأعماله ورأيه في الميعاد المحدد، وللهيئة مناقشة الخبير في الجلسة عن نتيجة التقرير، وإذا تعدد الخبراء تبين الهيئة طريقة عملهم منفردين أو مجتمعين''، أما المادة الثانية فقد ورد نصها''.. يجوز لهيئة التحكيم تكليف الخبير بتقديم تقرير تكميلي لتدارك أي نقص أو قصور في تقريره السابق''.
وطبقاً لنص المادة (33) سابقة الذكر يجوز للخصوم طلب رد الخبير المُعين من قبل هيئة التحكيم إذا قام به سبب من أسباب رد المحُكم ، حتى لا يكون تقريره مُعيبا بأحد العيوب التي تؤثر في حكم هيئة التحكيم، مثل المحاباة أو المجاملة وغيرهما، وضماناً من نظام التحكيم في إحقاق الحق والعدل فقد أجاز النظام للخصوم تقديم تقارير استشارية لهيئة التحكيم سواء كانت مؤيدة أو معارضة لتقرير الخبير، وهذا ما تم النص عليه في المادة (34) سابقة الذكر بأنه ''وللمحكمين تقديم تقارير استشارية للهيئة''. وتبقى القاعدة العامة مطبقة وسائدة في أن رأي الخبير يُعد رأياً استشارياً لهيئة التحكيم لها أن تأخذ به كاملاً أو أن تطرحه كاملاً، كما لها أن تأخذ بجزء منه دون الباقي، وهذا ما انتهى إليه المنظم في عقب المادة (34) سابقة الذكر بالقول: ''وفي كل الأحول لا تكون الهيئة مقيدة برأي الخبير''.
وفي هذه الحالة يحق لأي من خصوم الدعوى التحكيمية الطعن في القرار الذي انتهت إليه هيئة التحكيم بشأن ما تضمنه تقرير الخبير محل الطعن، حال الاعتراض على الحكم النهائي الصادر من هيئة التحكيم، كما لهيئة التحكيم الانتقال إلى أي وسيلة أخرى من وسائل الإثبات المنصوص عليها شرعاً أو نظاماً، وذلك طبقاً للمادة (33) من اللائحة التنفيذية لنظام التحكيم.
وبذلك تتضح أهمية وفاعلية أعمال الخبرة أمام هيئة التحكيم وتأثيرها الواضح على الأحكام الصادرة في الدعاوى. لذا، يجب على هيئة التحكيم ألاّ تنساق وراء طلبات أطراف الدعوى التحكيمية المتضمنة انتداب الخبراء إلا إذا قدرت أهمية ذلك بالفعل في الدعوى، وأنه يجب عليها انتداب الخبراء الأكفاء حسب تخصصاتهم لتفصل في النزاع المنظور أمامها بما تراه حقاً وعدلاً.