الاستثمار في زمن الأزمات ومستقبل الصناعة في المملكة (1 من 2)

تتابع على المنظومة الاقتصادية العالمية العديد من الأزمات التي انخفضت بمستويات النمو، وبددت ما تحقق من مكاسب استغرق تحقيقها عقوداً عدة، ومن ذلك أزمة البنوك الأمريكية في عام 1931، وأزمات مشابهة في كل من اليابان، وأمريكا الجنوبية، كما هو معروف في التاريخ المصرفي الدولي، وفاقم من ذلك ما شهده المجتمع الدولي من حروب مختلفة استنزفت الميزانيات والموارد بشكل قل نظيره، ولم يتوقف الحال على هذا ولكن كان للكوارث الطبيعية نصيب في هذه الأزمة، حتى أصبح مجرد الحلم بالرجوع إلى عهود الرخاء - في بعض الأحيان - ضرباً من المستحيل.

ومع فداحة ما ذكر، إلا أن ما نمر به اليوم ربما يكون - ومن دون مبالغة - أشد فداحة، حيث اجتمع علينا بطء نمو الاقتصاد الأمريكي - الاقتصاد الأكبر في العالم - وأزمة الديون في منطقة اليورو التي تجر في دوامتها العديد من الدول الأوروبية ذات الاقتصاد القوي أمثال إيطاليا، وهي في طريقها لجر اقتصادات أخرى نحو الهاوية مثل اقتصاد الصين الذي أعلن عن خفض إنتاجه في المرحلة القادمة بسبب ضعف الطلب والتقلبات الاقتصادية والكوارث الطبيعية التي تضرب في كل مكان.

وهنا طفا السؤال إلى السطح من جديد: أين نستثمر؟ وما دور دول الخليج عامة والمملكة خاصة في النهوض بالعالم من هذه الأزمة؟ وما مصير الاستثمار في أوقات الأزمات؟ وهذا السؤال لم يكن يؤرق المستثمرين الكبار فقط، ولكنه امتد إلى الشركات والأفراد، وأثار مع تساؤلات أخرى، هل سيستمر انتظار المال في البنوك؟ وماذا سنفعل حيال الوقت الذي يساوي في قيمته المال إن لم يزد عليه، وإذا لم يتم تدوير المال فكيف يمكن تدوير عجلة الاقتصاد والتنمية، وتقليل معدلات البطالة التي إذا ما تفشت محت الطبقة المتوسطة، ومحت معها القوة الشرائية العظيمة التي تحرك الاقتصاد.

لا يخفى على الجميع أن الاستثمارات تبحث عن الأمان والاستقرار السياسي، وهذا ما أوقف رأس المال الباحث عن ملاذ آمن بين نارين، نار ما ذكر أعلاه، ونار الثورات العربية الحالية أو ما يسمى بالربيع العربي انطلاقاً من تونس مروراً بمصر ثم ليبيا وبعدها اليمن وهكذا الحال مع منطقة التوتر الشديد في سورية، يقابله فوائض في ميزانيات دول الخليج وخصوصاً في الصناديق السيادية التي تمتلك ما يقارب 40 إلى 60 من قيمة أكبر عشرة صناديق سيادية في العالم، حيث اعتادت دول المجلس على الاستثمار في كل من دول أوروبا وأمريكا وأخيراً، أصبح لديها استثمارات في الصين والهند، لكنها لا تزال تراوح في الإقدام على مشاريع أخرى بسبب مشكلة أخرى كانت موجودة في السابق وأصبح لها اليوم ظهور أكبر يتمثل في تذبذب العملات.

نحتاج اليوم إلى رؤية واضحة لصناعة اقتصاد قوي جداً مبني على أسس متينة، فالكل سمع أو قرأ عن أزمة اليونان، وما جرَت من أزمات أكبر وأكبر وأصبحت مشكلة اليونان مثل كرة الثلج التي تكبر كل يوم، فقد اعتمدت اليونان على السياحة على أنها مصدر الدخل الرئيس للدول، وأغلب سائحي اليونان من دول أوروبا، ويعلم الجميع أن السياحة ليست صناعة، ومنتجها النهائي هو خدمة تعتمد على طلب السائح، وأي اضطراب يحدث في المنطقة يوثر سلباً في هذا القطاع كما حدث في قطاع السياحة في مصر وسبب خسائر هائلة لمستثمري الخليج.

لكننا نرى في الكفة الثانية أن الاقتصاد الألماني قوي متين متماسك، وقد يكون هو الذي يحمي أو يهوي بأداء في اقتصاديات منطقة اليورو، حيث يحميها للبقاء ضمن دائرة اليورو، أو إذا انسحب من هذه الدائرة فسوف يهوي ويدمر الاقتصاديات في منطقة اليورو، وهذا ناتجه من كونه يعتمد على الصناعة التي تشكل 70 في المائة من الدخل القومي لألمانيا من الخدمات الصناعية، فهو إذن اقتصاد منتج لا يعتمد على رغبات أشخاص، ومهتم في براءات الاختراع والبحث العلمي.

نعم، أنا أعلم أني لم أجب عن السؤال إلى الآن! ولكن أحببت قبل الجواب أن أعطي صورة عامة عن العالم الذي نعيش فيه، وسأترك ذلك إلى المقال القادم - إن شاء الله - لتقديم نظرة تحليلية عن كيف يمكن أن يكون لدينا اقتصاد حقيقي مبني على صناعة متينة توفر هذه الصناعة فرص وظيفية وقيمة مضافة للاقتصاد الوطني.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي