سوقُ الكلام !!
يحدثُ أن يُقامَ للكلام سُرادقات ذات إبهار وفخامة على مآسي واقعنا !!.
ولأن الطبيعة البشرية تدفع أربابها نحو أسواق الكلام في لحظات الفراغ الفكري أو السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، فلا ريب أن تشهد تلك الأسواق إقبالاً ورواجاً وأرباحاً، والفائزون هم ثلة أجادت التلاعب بمشاعر العامة عبر توابل أعِدَتْ بعناية فائقة ثم أضيفت بخبث إلى "بضاعة كلامية راكدة"، فتقاتل الناس على شرائها عبر المسموع والمقروء والمُشاهد !.
يحدث هذا حين ينصبُّ اهتمام أهل الرأي والنخبة على الجزئيات والتفاصيل، فيجرون أنفسهم والمتابعين إلى دوامة من البحث عن المجهول، فيضيع الوقت بين كرٍّ وفرٍّ، وفي تنظير عقيم ممل، والمحصلة خلق بؤر جدلية تتشكل تدريجياً على صعيد الرأي العام، لا تفضي إلا إلى تلاسن وتراشق وتعارك، والمجتمع هو الذي يدفع الثمن في النهاية !.
كثيراً ما أواجه نفسي بهذا السؤال : لماذا لا نجيدُ فنَّ الصمت، أو لغة الصمت، أو بلاغة الصمت؟ أو بالأحرى .. لماذا نعتبر كثرة الكلام دليل حياة، ونعتبر بعضَ الصمت سعياً نحو الموت ؟!.
يتدافع ذاك السؤال بأطياف شتى على تلافيف عقلي يبحث عن إجابة وقتما أرى صياحاً بلا مغزى، أو نقداً بلا معنى، أو حواراً بلا هدف، أو مناظرة بلا مضمون.. فأقول في نفسي : لماذا تستهوي دوامات الثرثرة والجدل العقيم أفئدة كثير منا، رغم أن طرحها مُرٌّ، وحصادها شوك.. احتقانات، خصومات، تحزُّبات!.. أي أن المحصلة تساوى صفراً، بل وأدنى بكثير؟!.
لا تفسير عندي لذلك إلا الرغبة الجامحة في بيع الكلام وحصد الثمن، ولو كان المقابل دهسُ المودة، وتمزيقُ الوحدة، وإشاعة الفوضى.. ففي الأسواق تتوارى أخلاق البشر النبيلة، وتبرز خصالهم الوحشية الدميمة، فيصبح الممنوع مرغوباً، والمُحرَّم حلالاً.. تحت وطأة التبرير الأنوي التشرذمي !.
لقد كتبت في الاقتصادية مقالاً بتاريخ 9/10/2010 تحت عنوان "سوق الإعلام الفضائي!" قلت فيه : "إذا أصبح تحقيق الربح هدفاً وحيداً لما يمكن أن نسميه بــ "الإعلام الجديد"، أو "الإعلام الفضائي"، فلا عجب أن تتحول الرسالة إلى تجارة، عبر مواد تُحْدثُ دوياً لجذب جمهور المشاهدين، ولا تصيب هدفاً إلا ما يملأ جيوب أصحاب الفضائيات من جيوب المشاهدين المُغرر بهم!".
وقلت : "للأسف، لقد بات إعلامنا الفضائي سوقاً مفتوحة لكل السلع صالحها وفاسدها، ثمينها وغثها، بل وأضحت بضائع الغير تمر بلا فحص، وتُعرض بلا رقيب، وكأن إعلامنا الفضائي يريد أن يثبت لأهل السبق أنه إعلام متحرر، ومنفتح على الغير، وليس لديه تشدد أو تعصب، وهذا خطأ كبير وجسيم، إذ ليس معنى التكامل بين الشعوب والثقافات لخلق أطر مشتركة للتفاهم والتعايش، أن أنزع ذاتي من جذورها، وأن أطمس معالم هويتي، وأن أنسى تراثي وحضارتي، ثم أدور في فلك الغير، ظناً بأن الغير سوف يسعده ذلك، وهو ظن هش وبائر، فمن لا يقدر أن يحترم نفسه.. لن يحترمه غيره!".
قلتُ ذلك قديماً وأقوله الآن.. لأن شهوة الكلام قد جرت الجميع نحو دوامتها القاتلة، إذ عُطِّلت كل الجوارح عن العمل والإنتاج، ومُنح اللسان تفويضاً بالثرثرة في كل مكان !.
لو كان الأمر بالثرثرة لكنا على رأس الدول المتقدمة !!.