تطلعات تركيا وقدراتها
لا يخفى على أحد صعود الدور التركي في المنطقة في عهد حكومات حزب العدالة والتنمية برئاسة رجب طيب أردوغان ورغبة القيادة التركية في أن تجعل تركيا أكبر قوة إقليمية وانعكاس هذه الرغبة على السياسة الخارجية التركية التي حققت قفزة نوعية خلال العقد الأخير. ومع ذلك، ظهرت في الآونة الأخيرة علامات استفهام حول تطلعات تركيا وحجم قدراتها وإمكاناتها للوصول إلى أهدافها.
ووسط حالة السكر التي أصابت الرأي العام التركي بعد موقف أردوغان الشهير في قمة دافوس وتعاطف الشارع العربي مع هذا الموقف، لم تلتفت وسائل الإعلام التركية كثيرا إلى طرح هذه الأسئلة بل اكتفت بإقبال المشاهد العربي على المسلسلات التركية وانبهار المواطن العربي بأردوغان وغول وداود أوغلو وما إلى ذلك من الأخبار، إلا أن بعض الباحثين تنبهوا لهذه النقطة الحساسة وقاموا بدراسة الموضوع.
مؤسسة البحوث الاستراتيجية الدولية (أوساك)، مقرها العاصمة التركية أنقرة، أصدرت قبل أيام تقريرا أعده الخبير في شؤون الشرق الأوسط عثمان بهادير دينتشار والخبير في الاقتصاد السياسي مصطفى قوطلاي، بعنوان ''حجم قدرات تركيا في الشرق الأوسط .. حدود الممكن''، جاءت فيه ملاحظات تشير إلى مكامن الخلل في قدرات تركيا مع تقديم اقتراحات لمعالجتها.
ومن الملاحظات أن البنية التحتية لوزارة الخارجية التركية من حيث الكوادر البشرية والقدرات المادية غير كافية للقيام بالمهمة التي تتطلع إليها، وعلى سبيل المثال، عدد الدبلوماسيين الأتراك العاملين في الدول العربية يصل إلى 135 دبلوماسيا وخمسة منهم فقط يعرفون اللغة العربية، مما يعوق الوصول إلى قنوات المعلومات المحلية. كما تناول التقرير نقاط الضعف في السياسة الاقتصادية رغم التحسن الكبير في الوضع الاقتصادي، حيث يشير مثلا إلى التراجع في نسبة المنتجات ذات التكنولوجيا العالية من بين المنتجات المصدرة إلى الشرق الأوسط من 4 في المائة في عام 2002 إلى 3.5 في المائة في عام 2010، إضافة إلى أن المنتجات التي يتم تصديرها إلى الأسواق العربية هي من نوع المنتجات التي يسهل تعويضها واستبدالها بمنتجات أخرى في ظل غياب استراتيجية صناعية شاملة تجعل تركيا متفوقة في التنافس.
الباحثان اعتمدا في دراستهما لقياس قدرات تركيا في الشرق الأوسط على ثلاثة معايير وهي القوة الدبلوماسية والقوة الاقتصادية والقوة الناعمة. ويلفت التقرير إلى التقصير في استخدام القوة الناعمة التي تملكها تركيا بشكل صحيح، ويتساءل عن دور المسلسلات التركية في تشكيل الصورة الذهنية لتركيا لدى المواطن العربي، ويذكر أن دراسة أجريت في الأردن تشير إلى أن 51 في المائة من المشاهدين الأردنيين يعتبرون المسلسلات التركية هجمة ثقافية لنشر العلمانية.
التقرير يخلص في النهاية إلى أن قدرات تركيا الحالية لا تكفي لتحقيق تطلعاتها ولا تؤهلها لتكون أكبر قوة إقليمية إن لم تستدرك الأمور وتعالج القصور. وفي هذا الصدد، يقدِّم الباحثان بعض الاقتراحات لزيادة حجم القدرات من النواحي المادية والبشرية في جميع المجالات الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية وغيرها حتى تتناسب مع تطلعات تركيا.
حكومة حزب العدالة والتنمية منذ تبني سياسة الانفتاح على العالم العربي تدرك النقص الموجود في الكوادر المؤهلة وتسعى لسد هذه الثغرات، ولكن الأمر بالتأكيد يحتاج إلى وقت، وهناك عدد من الدبلوماسيين الجدد يتعلمون اللغة العربية في الأردن وغيرها، كما صرَّح به مساعد وزير الخارجية التركي ناجي كورو في لقاء تلفزيوني قبل أيام.
تقرير مؤسسة البحوث الاستراتيجية الدولية يلفت في أثناء تقييمه للقوة الناعمة إلى فشل فضائية ''التركية'' الناطقة بالعربية منذ انطلاقها العام الماضي في التنافس مع مثيلاتها الأخرى كقنوات روسيا اليوم وبي بي سي وفرانس 24 والعالم وغيرها، مؤكدا صحة ما توقعته في المقال الذي كتبته بعيد انطلاق هذه القناة بعنوان: ''فضائية (التركية) .. خطوة متعجلة فرضها الصعود التركي''، حيث ذكرت فيه أن إطلاقها جاء على عجالة لتكون لتركيا قناة ناطقة باللغة العربية، من دون تخطيط مناسب، وأشرت إلى عدم وجود إعلاميين أتراك يجيدون اللغة العربية.
هناك معايير أخرى لم يتطرق إليها التقرير، مع أنها من أهم محددات القدرة على القيام بدور الزعامة الإقليمية، ومن هذه المعايير تحصين الجبهة الداخلية لمواجهة الاختراق، وإلا فقد يتم في إطار رفع القدرات توظيف عناصر تعمل لمصلحة دول أخرى، كما حدث في فضائية ''التركية'' التي كان يسيطر عليها إلى وقت قريب الإعلامي التونسي غسان بن جدو والكاتب السوري حسني محلي وكلاهما مواليان لنظام الأسد ويعملان لمصلحة المحور الإيراني ـــ السوري. كما أن هناك تناقضا كبيرا بين تطلعات الحكومة التركية وسلوك بعض الموالين لها، فبينما يشتد التنافس والصراع بين تركيا وإيران في المنطقة وخاصة على الساحتين العراقية والسورية، تفتح صحيفة ''يني شفق'' المقربة من رئيس الوزراء التركي صفحاتها لكاتب موال لطهران ومنزعج من الانفتاح التركي بحجة أنه يحاصر إيران، مع أن الكاتب نفسه قد تم إبعاده عن الصحيفة قبل فترة بسبب مقالاته التي أزعجت القراء السنة. وهذا التناقض بين توجه تركيا في المنطقة وتوجه وسائل الإعلام الموالية للحكومة التركية في حاجة إلى دراسة لمعرفة حدود قدرة اللوبي الإيراني في توجيه الرأي العام التركي.
ومن المعايير التي أغفلها التقرير في تقييم قدرات تركيا، القوة العسكرية، إذ لا يمكن أن تكون تركيا أكبر لاعب إقليمي مع غياب استخدام القوة العسكرية بمختلف أشكالها، لأن القوات الثلاث الأخرى قد تصطدم بالقوة الصلبة التي يستخدمها اللاعبون الآخرون في المنطقة، كما نرى في العراق وسورية، وبالتالي لا بد من دراسة القوة العسكرية لتركيا ومدى جاهزيتها لاستخدام هذه القوة.