المعارضة التركية وضرورة إعادة البناء

الحكومة والمعارضة في الأنظمة الديمقراطية كالجناحين يكمل بعضهما بعضًا، ويحول دون تحوُّل النظام من الديمقراطية إلى النظام الشمولي الدكتاتوري، بل المعارضة القوية الواعية من أهم مكاسب الأنظمة الديمقراطية لمراقبة أداء الحكومة وتقييمه وحفظ البلاد من استشراء الفساد. ومنافسة الأحزاب الحاكمة والمعارضة على كسب ثقة الناخبين توسِّع آفاق السياسة، وتعطي المواطنين فرصة الاختيار، وتعود في نهاية المطاف على الوطن بالنفع الكبير.
وعندما تتسع الفجوة بين الحزب الحاكم والمعارضة في قراءة الواقع وإدراك الظروف والاستجابة لرغبة الشارع، ويتقدم الحزب الحاكم على الأحزاب المعارضة بمراحل عدة في المنافسة، حيث يصعب على الأحزاب المعارضة الوصول إلى ما وصل إليه الحزب الحاكم من الوعي والنضج، قد يسهِّل ذلك مهمة الحكومة لعدم وجود منافس قوي، ولكنه في كثير من الأحيان يتحول إلى أداة لعرقلة الإنجازات والإصلاحات، بل إلى أداة الهدم والدمار، ويتسبب في حالة انقسام حادة في صفوف المجتمع حين يحتاج البلد إلى تكاتف أبنائه من أجل مصالحه العليا.
هذه الظاهرة، أعني وجود حكومة قوية في مقابل معارضة هزيلة، هي ما تشهدها الساحة التركية منذ تولي حزب العدالة والتنمية الحكم في البلاد، ورغم إجراء خمسة انتخابات برلمانية ومحلية خلال هذه السنين لم تتمكن المعارضة من الفوز في أحد تلك الانتخابات، بل ارتفعت نسبة التصويت لحزب العدالة والتنمية الحاكم لتصل في الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي أجريت في 12 حزيران (يونيو) 2011 إلى ما يقارب 50 في المائة، وتشير استطلاعات الرأي إلى أن شعبية الحزب الحاكم برئاسة رجب طيب أردوغان تصل الآن إلى 54 في المائة.
الربيع العربي زاد من حجم الفجوة بين حزب العدالة والتنمية الحاكم والأحزاب المعارضة في فهم الواقع، فبينما أصاب الأول - إلى حد كبير - في قراءة الأحداث والمتغيرات، فشل الثاني في إدراك أن رياح التغيير التي تهب في المنطقة ليست مؤامرة خارجية، وحاول السباحة عكس التيار ووقف ضد إرادة الشعوب. ولكن الأدهى منه والأمَرّ أن يصل هذا الموقف الفاشل إلى درجة الوقوف ضد الأمن القومي لتركيا ومصالحها العليا، بحجة معارضة الحكومة وسياستها الخارجية، كما كشفت لنا الجلسة الأخيرة التي عقدت في البرلمان التركي الخميس الماضي للاستماع إلى وزير الخارجية حول الوضع في سورية وموقف الحكومة منه.
وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو يتمتع بشخصية تختلف كثيرًا عَمَّن سبقه في هذا المنصب، ومنذ إسناد حقيبة الخارجية إليه يعمل على إعادة بناء الخارجية التركية على أسس جديدة، وضع فلسفتها بنفسه كمنظِّر ومهندس للسياسة الخارجية لتواكب أهداف تركيا وطموحاتها. ويميزه أيضًا كونه أكاديميًّا أمضى سنين طويلة من عمره في التدريس بقاعات الجامعات. وكانت كلمته التي ألقاها أمام النواب كدرس مفيد لطلاب السياسة الخارجية، إلا أن تصرفات نواب المعارضة، خاصة نواب حزب الحركة القومية، خلال الجلسة، لم تكن على المستوى المطلوب من الوعي بحساسية الوضع وخطورته.
المعارضة التركية ما زالت تعارض سياسة الانفتاح وتدعو إلى الانكفاء وعدم التورط في الشأن الداخلي لسورية بأي حال من الأحوال، وتتهم حكومة أردوغان بجر البلاد إلى الحرب في سورية لصالح الأجندة الأمريكية، وأنها تحاول تصدير الديمقراطية إلى بعض الدول بقوة السلاح، بينما تسكت عن الأنظمة الشمولية الحاكمة في دول أخرى.
بغض النظر عن انتقادنا لبعض مواقف الحكومة التركية من الثورات العربية بسبب ارتفاع سقف المأمول منها، إلا أنها لا يمكن حتى المقارنة بينها وبين المعارضة في هذا الجانب، كما أن التهم الموجَّهَة إليها من قبل المعارضة باطلة لا أساس لها من الصحة. لم يكن للحزب الذي ناضل مع كل القوى الديمقراطية في تركيا خلال العقد الأخير من أجل تعزيز إرادة الشعب وطي صفحة الانقلابات العسكرية بكل أشكالها، أن يقف في سورية مع حزب البعث ضد مطالب الشعب السوري، وليس من أهداف تركيا تصدير الديمقراطية وتغيير الأنظمة السياسية، كما تدعي المعارضة، ولم تكن تركيا من حرَّض على الثورة في سورية، وإنما الشعب السوري هو من قرر النزول إلى الشارع من أجل إسقاط النظام. وأما اتهام الحكومة التركية بخدمة الأجندة الأمريكية فهي جزء من الدعاية السوداء التي يروجها النظام السوري وحلفاؤه ضد تركيا، بل الصحيح أن الحكومة التركية هي التي تسعى لتحريك المجتمع الدولي من أجل إنقاذ الشعب السوري، وأن الموقف الأمريكي متخاذل بسبب قلق واشنطن على أمن إسرائيل.
الاهتمام بالشأن السوري ليس ترفًا بالنسبة لتركيا، بل ضرورة تفرضها الظروف الإقليمية والجغرافية والمصالح الوطنية والأمن القومي، إضافة إلى كونه قضية إنسانية، وكان على المعارضة التركية أن تدرك حجم المخاطر التي تهدد تركيا في حال استمرت الأزمة في سورية دون أي حل يرضي الشعب السوري، وأن تعي أن غض الطرف عما يجري في سورية لن يبعد تركيا عن تلك المخاطر، بل من المحتمل أن يجرها إلى دوامة من الأزمات والحروب.
والأغرب من بين مواقف الأحزاب المعارضة ما يتبناه حزب الحركة القومية، ذلك الحزب الذي يرفع راية الدفاع عن القومية التركية، ووقوفه إلى جانب النظام السوري الذي يدعي أنه يقاتل من أجل القومية العربية. لو كان حزب الحركة القومية التركي يهمه أمر الأتراك لما هاجم حكومة بلاده باتهامات صبيانية لمساندة نظام سفاح يقتل التركمان في حمص وحماه واللاذقية وغيرها.
الحكومة التركية تقوم بإعادة بناء الوزارات والمؤسسات الحكومية لرفع قدراتها حتى تكون مؤهلة لتحمل مسؤولياتها في مسيرة الصعود على المستويين الإقليمي والدولي، ولكن تركيا في حاجة أيضًا إلى إعادة بناء المعارضة، وهذا أمر ليس بيد الحكومة، والأيام وحدها كفيلة بأن تفرض على الأحزاب المعارضة إعادة بناء نفسها، وسط رياح التغيير التي تهب في المنطقة والعالم، وبعد سلسلة من الفشل الذريع والسقوط.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي