اكتشف نفسك من جديد
كلنا خلقنا بمواهب تميزنا عن بعضنا وتلك نعمة من الخالق سبحانه , ولكن البعض من هذه المواهب مدفونة في أعماقنا تنتظر شعاعا من نور لتبعثها من جديد. وإن منها ما يكون كالألماس و حتى نستخرجها لابد فيها من التنقيب والبحث الحثيث في أكوام من تلال قد تراكمت وتكدست عبر السنين. والبعض الأخر كالذهب يحتاج إلى مواقف وأزمات في هذه الحياة حتى تصهره وتنقيه من الشوائب.
ولكن المشكلة تكمن في أننا انشغلنا أو أُشغلنا في جوانب أخرى قد تقتضيها الحياة من التزامات مهنية واجتماعية وأسرية واقتصادية نَدور فيها كما تدور الرحى , و في خضم ذلك كله نسينا أنفسنا و تناسينا المعادن النفيسة التي نُخبأها دهرا في داخلنا !.
وقد تمضي السنون و أنت غافل عنها وهي تتأججُ بداخلك , و تنتظر منك أن تقف مع نفسك لتكتشفها . إن كثيرا من التذمر الذي نسمعه من فئة من الناس قد يكون سببه أن أسلوب حياتهم يتناقض مع المعادن التي بداخلهم . إذ لابد من جلسة صادقة مع النفس يغذيها التأمل والتفكر في أسلوب الحياة الذي نعيشه.
فهل تجد نفسك هنا أم هناك خلف تلك الصورة التي اعتلتها الأتربة فلم تعد تميزها, وتحاول جاهدا أن تكتشف حقيقتها. بل إن البعض منا بارع في اكتشاف المواهب لدى الآخرين, ولكنه ينسى في خضم ذلك أن يكتشف نفسه ! .
كان هناك رجل قد تجاوز الأشد من عمره, وهو يعمل في مهنة متواضعة تسمى الملاحة. فقد كان ينقل الناس من ضفة النهر إلى الضفة الأخرى مقابل أجر زهيد. وكان يستمع لشتى أحاديث الناس في مركبه المتواضع, ولكن قلبه كان يخفق بشدة وشوق عندما يستمع لطلبة العلم وهم يتحدثون ويتناقشون في العلم وفنونه. ولكنه كان يحدث نفسه قائلا: كيف لي بطلب العلم وقد بلغت الأربعين ونيف, و أنا لا اعرف إلا مهنة الملاحة. فبينما هو كذلك إذ رأى نملة تحمل قوتها وتحاول أن تتجاوز عقبة أمامها, وهي لم تزل تسقط وتحاول عدة مرات حتى بلغت هدفها. فقال في نفسه : إن كانت تلك النملة الضعيفة في الجسد القوية في الإرادة قد بلغت مرادها , فأنا أحق بذلك منها , فشمّر عن ساعديه و نَهَم في طلب العلم حتى لقب بعد ذلك بيحيي النّحوي.
لا يعني أنك إذا بلغت سنا معينا أو منصبا أو درجة أكاديمية أن لا تتأمل وتراجع ما تقوم به, فــرُبَّ جلسة واحدة في ساعة صفاء ينكشف لك معدنك النفيس فتنبثق فجرا من جديد.