احترام المبادئ أم تقديس أردوغان؟
تقديس الأشخاص والغلو في التعصب لهم من الأمراض التي تعانيها المجتمعات وهو من أهم الركائز التي تستند إليها الأنظمة الدكتاتورية لتقود الشعوب كقطعان الخرفان، ويتعارض مع مبادئ الديمقراطية والمساواة والتبادل السلمي للسلطة.
ومن الساحات التي نشاهد فيها هذه المشكلة الأحزاب السياسية التي يسيطر عليها الزعماء لمدة سنين وربما مدى الحياة. ولا شك في أن الساحة السياسية التركية ليست خالية من مرض تقديس الأشخاص. وفي هذا الصدد، تشير الكاتبة التركية آصلي أيدينتاشباش في مقالها المنشور في جريدة ''ملليت'' التركية في 29 أيار (مايو) بعنوان ''حزب العدالة والتنمية يعني الآن أردوغان فقط''، إلى أن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أصبح الآن يُقَدَّسُ كتقديس أتاتورك قبل ثمانينيات القرن الماضي، وأن الرموز والصور كلها غابت في الحزب ليصبح أردوغان هو الرجل الوحيد. وما دفع الكاتبة إلى هذه القناعة ما رأته في مؤتمر حزب العدالة والتنمية بمدينة إسطنبول، الذي عقد في ملعب رياضي بحضور أكثر من 100 ألف نسمة معظمهم جاء ليرى أردوغان ويستمع إليه.
صحيح أن حزب العدالة والتنمية اكتسب جزءا من شعبيته من خلال ما يتمتع به زعيمه ومؤسسه من الصفات المحبوبة والشخصية الجذابة، ولكن دور المبادئ والقيم في جميع النجاحات التي حققتها الحكومة التركية أكبر بكثير من كاريزمية أردوغان. ومما لا شك فيه أن تغليب دور أردوغان على دور المبادئ والقيم التي أُسِّسَ عليها الحزب الحاكم سيؤدي إلى الخلل في التوازن بين شخصية الزعيم وأهمية المبادئ والقيم لصالح الأول، ولكنه بالتأكيد لن يكون لصالح حزب العدالة والتنمية ولا لصالح ديمقراطية تركيا.
وإن عُدنا قليلا إلى الوراء، إلى حين انشقاق أردوغان ورفاقه من تيار نجم الدين أربكان وتأسيس حزب العدالة والتنمية لتحقيق رغبتهم في وضع خيار سياسي جديد أمام الناخبين الأتراك فسنرى أن سيطرة الراحل نجم الدين أربكان على الحزب سيطرة كاملة وفقدان الأمل في التغيير والتجديد كان من أهم الأسباب التي دفعت أردوغان وغول وآخرين إلى تلك الخطوة الجريئة، وأسَّسوا بعد ذلك حزبهم الجديد على قواعد تحول دون تكرار الأخطاء التي كانوا يشتكون منها، ومن هنا جاءت فكرة حظر الترشح لأكثر من ثلاث دورات متتالية حتى لا يتحول الحزب إلى نادي كبار السن. وكان في قيادة الحزب أقطاب غير أردوغان مثل عبد الله غول وبولنت أرينتش وغيرهما ممن انشقوا من تيار أربكان، إلا أن غول خرج من الساحة بعد أن انتخب رئيسا للجمهورية وفرضت خلال سنوات الحكم شخصية أردوغان القوية نفسها على البقية فتراجعت أدوارهم ليبقى دوره الوحيد المتفاقم.
لا نستطيع أن نحمل أردوغان مسؤولية هذا الوضع كله، لأنه ليس من المعيب أن يتمتع الإنسان بشخصية كاريزمية قوية ويكسب قلوب الناس، ولكن عليه أن يتنبه لإيجابيات وسلبيات ما آلت إليه الظروف، حتى لا ينجر من حيث لا يشعر إلى ما وقع فيه السابقون من القادة السياسيين حين ظنوا أن وجودهم ضروري للبلد وأن غيابهم يعني الخراب والطوفان.
أردوغان نفسه يؤكد دائما أنه ليس من طلاب الكراسي والسلطة وأن ما يقوم به يراه واجبا عليه خدمةً للوطن والمواطن، إلا أن حوله عددا كبيرا من السياسيين والبيروقراطيين والإعلاميين ورجال الأعمال وغيرهم من المنتفعين والمتنفذين مدينون لرئيس الوزراء التركي ويرتبط مستقبلهم به، فهؤلاء لا يمكن أن نقول إنهم أيضا يفكرون بطريقة تفكير أردوغان نفسها ويزهدون في المال والجاه، وبالتالي قد يدفعونه إلى البقاء والمواصلة حتى لا يفقدوا ما حصلوا عليه في وجوده من الامتيازات.
النائب يالتشين أكدوغان، كبير المستشارين السياسيين لرئيس الوزراء التركي، يتطرق في الحوار الذي أجرته معه صحيفة ''وطن'' التركية، إلى حاجة تركيا إلى الانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي ويزعم أن النظام السياسي يتعطل في غياب أردوغان أو غياب حزب العدالة والتنمية. وما قاله المستشار هذا يعبر بكل وضوح عن الحالة النفسية التي تهيمن على بعض أعضاء الحزب الحاكم، حيث إنهم لا يتصورون العالم بدون أردوغان، وإلا فكيف يعتقدون بأن النظام السياسي يتعطل لمجرد خروج شخص واحد من المشهد مهما كان حجمه وثقله؟ وهل يسمى نظام سياسي عمله مرهون بوجود زعيم، نظاما ديمقراطيا؟ كلا!
إن ما يدعيه المستشار يالتشين أكدوغان مجرد وهم وعار من الصحة، لأن النظام السياسي التركي لا يتعطل بخروج أردوغان من الساحة السياسية بأي سبب كان ولا بغياب حزب العدالة والتنمية عن المشهد، لأنه مع احترامنا الشديد لأردوغان وحزبه وتقديرنا لإنجازات حكومته فإن العملية السياسية ستستمر حتى وإن غاب أردوغان عن الساحة كما غاب قبله مندريس وأوزال، ويملأ الفراغ الذي يخلفه من يأتي بعده كما ملأ أردوغان نفسه ذاك الفراغ الذي خلَّفه من كان يظن أنه لا يمكن أن يأتي بعده أحد مثله.
الاستفادة من تجربة أردوغان مهمة ولكن الأهم منها هو الحفاظ على المبادئ والقيم وتقديم نموذج أخلاقي ومبدئي في الساحة السياسية التي تعج بالنفعيين. وأمام أردوغان وحزبه أيام وخيارات صعبة، لأن الحكومة التركية قد تفشل في تنفيذ خطة الانتقال إلى النظام الرئاسي أو شبه الرئاسي، وأما التراجع عن قرار عدم الترشح فسيشكل ضربة قوية لمصداقية أردوغان. وفي حال ترشح أردوغان لرئاسة الجمهورية وفوزه فسيستمر ظله في الهيمنة على حزب العدالة والتنمية، فهل ستنجح القيادة الجديدة لحزب العدالة والتنمية بعد أردوغان في معالجة هذه المشكلة أم أنها ستدير الحزب بالوكالة عن أردوغان ومن خلال أوامره وتوجيهاته؟ وهل احترام المبادئ ستختار أم تقديس أردوغان؟ الجواب ستكشفه لنا الأيام..