في ركن القهوة..!
• كعادتي, كنت أسابق الزمن للّحاق برحلة القطار الذاهبة من الرياض إلى الاحساء التي قد تأخرت عنها. ولكن زحمة الدائري الشرقي تضاعفت أضعافاً مضاعفة بسبب الإجازة الصيفية, وكانت تلك هي ضريبة تأخيري.
وصلت لمحطة القطار وإذ بالطيور قد طارت بأرزاقها, ورحل القطار آبياً أن يحملني بين أحشاءه. أسرعت لموظف الحجز لأحجز مقعداً على متن الرحلة القادمة, التي وللأسف ستتحرك عقب 3 ساعات من الآن. أخترت البقاء كل تلك الساعات في المحطة كي لا أقع في نفس الموقف.
أو كما قال صلى الله عليه وسلم {لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين}. وما أن هممت إلى قاعة الانتظار حتى لمحت ركناً للقهوة في أقصى يمينها. فقلت في نفسي: لِما لا أرتشف القهوة وأقرأ أي شيء يستحق القراءة, ولو وَصَلَت لأن أقرأ قائمة الطلبات! وكما اقترحت على نفسي طلبت القهوة ولم أجد أحد الجرائد التي أفضّلها, لذا اضطررت لأن آخذ جريدة معروفة لكنني لست أحد قرّاءها.
أخذت قهوتي واخترت أكثر مكان انعزالا وهو في ركن ركن القهوة. نزعت عني نظارتي الطبية لأطلق لعينيّ العنان لتتحرر عن بروازها الصغير, وأنزلت عنّي حقيبتي التي أنهكت كتفي. كنت ممسكاً بالجريدة وأحدق بها, لكن الصدق أنني لم أكن أقرأها, بل كنت أقرأ أحداث اجازة نهاية الاسبوع الجميلة جداً التي تمر في ذهني كشريط موسيقى متناغم. وفجأةً أتى رجل وُضح عليه البشاشة وألقى عليّ السلام, وقفت ورددت السلام وصافحته.
• فقال لي: هل لي أن أشاركك الطاولة, فالمكان كما ترى مقتض بالمتأخرين أمثالنا.
• ضحكت وأذنت له بالجلوس معي. فهذا الانسان بالذات هو الذي سيبعد عني ملل الانتظار.
• بادرني بالتعارف وقال لي: أنا سعيد, وأنت؟ قلت له: أنا سعيد أيضاً بمقابلتك ههه, اسمي إياد.
• قال: حينما كنت أنتظر طلبي شدني أنك كنت في منعزل عن الآخرين, واستغليت إلقائك لي بظهرك لأسترق النظر إليك. وجدتك منهمكاً بالقراءة لهذا الشخص (وقد أشار إلى مقال كان مكتوب في الصفحة التي كنت أحدق فيها)
• فابتسمت وقلت: أنني حينما أقرأ لا أعلم بمن حولي (وأي قراءة كنت أقرأها)
• قال لي: لدي ملاحظة على من تقرأ له, لا أنصحك بأن تقرأ لهذا الشخص فهو يدعو إلى التكفير والترهيب من ديننا, بل إنه يمارس حق الوصاية على لناس.
• حينها غيرت من جلستي ووضعت جريدتي على الطاولة وارتشفت رشفة من كوب قهوتي, وأخرجت جوالي ووضعته على الوضع الصامت وتركته فوق الجريدة ولبست نظارتي, وقلت: ولماذا تمارس أنت حق الوصاية عليّ؟
• رد علي وقد ظهر عليه الدهشة من ردة فعلي: أنا لا أمارس حق الوصاية, بل أنصح.
• قلت: وهو يرى أنه ينصح! أليس كذلك؟
• قال: بلى هو يرى ذلك.
• فقلت: للأسف أصبحنا نرى أن ما نقوله لغيرنا هو نصيحة وتوعية, وما يقوله غيرنا لنا هو ممارسة حق وصاية علينا, حتى أصبحنا لا نتقبّل الآراء كما أن غيرنا يفعلون كذلك أيضاً.
نحن لا نكلف نفسنا عناء الاستماع لغيرنا لنعطيه الفرصة حتى نعرف ماذا يريد ونصل إلى وجهات نظر متقاربة. بل اعتمدنا على تصنيف مسبق لكل ذي توجه بأنه يعارضنا في كل أمورنا, بينما لو أمعنّا النظر لوجدنا أن تعارضنا بسيط جدا ولا يستحق كل هذا العداء. ميول المجتمع كلها تجتمع عند هدف نبيل ألا وهو النهوض بالأمة والرقي بها, سواء كان فكرها صحيح أم خاطئ. فحتى ذلك الذي يمارس حق الوصاية على الناس وذاك الذي "يميّع" الدين كلهم يريدون النهوض والرقي سواء كانوا على حق أم باطل. لذلك لن أعمل بنصيحتك وسأقرأ لهذا الشخص ولن أصنّف أحد أو طائفة أو فئة بالمجتمع على أنهم أعدائي.
• قلت كلامي وكان سعيد يردد "نعم" أو "صحيح". اختتمت كلامي وقلت له: سعدت بلقائك أخي سعيد والآن حان موعد رحلتي ولا أريد أن تفوتني كأختها.
• فقال لي: عذراً أخ إياد, فالرحلة مازال متبقياً عليها ساعتان ونصف! تأكدت من ساعتي وفعلا كان كلامه صحيحاَ, لم يمر إلا نصف ساعة! فقلت: كيف عرفت عن موعد رحلتي؟
• قال سعيد: أفهم إن فيه خط قطار غير هذا؟! أجلس يا منفعل!
• وما كان لي إلا أن أعود للجلوس حتى وقت الرحلة.