مخاوف من عودة التدخلات العسكرية في تركيا
التطورات التي حدثت في تركيا خلال السنوات الأخيرة من الاستقرار السياسي والنجاح الاقتصادي وتعزيز الحريات في مقابل الاعتقالات التي طالت عددًا من الضباط الكبار وتفكيك شبكة أرغينيكون الإجرامية ولو بشكل جزئي، دفعت الكثيرين إلى الاعتقاد بأن عهد الانقلابات والتدخلات العسكرية في تركيا قد ولى دون رجعة، ولكن هناك نسبة كبيرة من الكتاب والمثقفين ما زالوا يحذِّرون من احتمال عودة الانقلابيين في ثياب مختلفة إن لم يتم سد جميع الثغرات.
التسجيلات الصوتية التي تم تسريبها ونشرها في الإنترنت زادت من هذه المخاوف، وسط أنباء عن نية الحكومة التركية تعديل المادة الـ250 من قانون المحاكمات الجزائية، وإلغاء المحاكم التي تتمتع بالصلاحيات الخاصة في مكافحة الجرائم المنظمة والشبكات الإجرامية.
المحاكم ذات الصلاحيات الخاصة لعبت دورًا كبيرًا في قضايا شبكة أرغينيكون الإجرامية واعتقال عدد كبير من الضباط المتقاعدين والموظفين بتهمة محاولة الانقلاب على الحكومة التركية، ومن ثَمَّ أصبحت هدفًا للقوى المساندة للانقلابيين، ووُجِّهت إليها سهام الانتقاد لتشويه سمعتها والتشكيك في قراراتها. والأنباء التي سُرِّبت إلى وسائل الإعلام حول استعداد الحكومة لإلغاء هذه المحاكم في إطار التعديل في المادة الـ250 من قانون المحاكمات الجزائية أثارت استياء القوى الديمقراطية الداعمة للحكومة، وأفرحت المؤيدين للتدخلات العسكرية والمنزعجين من الاعتقالات التي طالت العسكريين.
وبينما يفرح الأوساط المعارضة لمسيرة الإصلاح بتلك الخطوة المرتقبة التي ترى أنها تعني تراجع أردوغان عن أخطائه، يحذِّر خبراء القانون من مغبة التعديل المذكور وإلغاء المحاكم ذات الصلاحيات الخاصة، مؤكدين أن خطوة كهذه من شأنها أن تنسف جميع ما بني من الإصلاحات خلال السنوات الأخيرة وتعود بالبلاد إلى المربع الأول. ويرى هؤلاء أن أي تعديل كالذي تتناوله وسائل الإعلام سيؤدي إلى صعوبة ملاحقة المخططين للانقلاب العسكري وعناصر شبكات الجرائم المنظمة، وإعاقة المحاكمات في قضايا أرغنيكون ومحاولة الانقلاب على الحكومة، وإطلاق سراح المعتقلين في تلك القضايا ليرجعوا إلى التخطيط والسعي مجددًا لاسترجاع نفوذهم والانتقام من حكومة أردوغان والقوى الديمقراطية التي وقفت بجانبها.
وفي إحدى التسجيلات الصوتية المسربة التي نشرت في نهاية الشهر الماضي، يزعم المتكلم الذي يعتقد أنه اللواء البحري جيم عزيز تشاكماك، المعتقل في قضية المطرقة بتهمة التخطيط لمحاولة الانقلاب، أنه سيكون هناك رد على من اعتقلوهم خلال سنتين، وأنهم سينتقمون منهم في الجولة الثانية دون أن يفرقوا بين الأطفال وكبار السن، وأنهم أخطأوا بسبب مبالغتهم في الثقة بأنفسهم، مضيفًا أن من اعتقلوهم يرتكبون الآن الخطأ نفسه؛ لأنهم واثقون بأنفسهم؛ ولأن الإنسان يكون في أضعف حالاته حين يبالغ في الثقة بنفسه. وكان قبل ذلك قد نُشر شريط صوتي آخر يُنسَب إلى اللواء البحري المعتقل محمد فاتح إيلغار، ويقول فيه إنهم سيخرجون من السجن في أقرب وقت بعد تمرير قانون يتم إعداده، ويدَّعي أن لديهم خططًا سينفذونها بعد إطلاق سراحهم، وأن البلد سيواجه إما أزمة اقتصادية، أو حربًا أهلية ليعود بعدها إلى عافيته، ومن ثَمَّ ستبدأ رحلة العودة.
لم تنته سلسلة الأشرطة الصوتية المسربة بهذين الشريطين، بل نُشِرَ في الإنترنت الأسبوع الماضي تسجيل صوتي جديد يقال إنه يعود إلى عقيد استخباراتي ما زال يعمل في الجيش التركي، يخاطب فيه مجموعة من الضباط الصغار، ويهدد في كلمته أعضاء الحكومة التركية وأنصارها، ويزعم أن عاقبتهم ستكون عقوبة الإعدام عاجلاً أو آجلاً، وأن الذين يذيقونهم ما يعانونه سيدفعون ثمن ذلك برؤوسهم، ثم يصف النساء لابسات العباءة السوداء بـ ''الصراصير''.
ومن المؤكد أن هؤلاء الضباط الغاضبين على الحكومة التركية سواء كانوا من المعتقلين والمتقاعدين أو من أنصارهم الذين ما زالوا موظفين في الجيش التركي لو يجدون أي فرصة جديدة فسينتقمون من حكومة أردوغان ومن ساندها في مكافحة الشبكات الإجرامية والقوى الانقلابية شر انتقام، وهذا ما يقلق الكتاب والمثقفين الذين وقفوا إلى جانب الحكومة في سبيل طي صفحة التدخلات العسكرية، ويقضّ مضاجعهم، في ظل الأنباء التي تتحدث عن أن التعديل سيحتوي تجريم كل من ينشر الوثائق والتسجيلات الصوتية المسربة، وعدم السماح بفتح التحقيق في حق القادة العسكريين وبعض المسؤولين إلا بإذن رئيس الوزراء، وهذا يعني أن كشف خطط الانقلابيين سوف يُعَدُّ جريمة في حال مر التعديل من البرلمان، كما أنه سيلبس ثوب الحصانة لمزيد من المسؤولين العسكريين والمدنيين بشكل يتعارض مع مبدأ المساواة أمام القانون.
السؤال الذي يطرح نفسه هو: ''ما الذي دفع الحكومة التركية إلى التفكير في مثل هذه الخطوة الخطيرة؟''. ومن المستغرب جدا أن تقود الحكومة التركية برئاسة رجب طيب أردوغان خلال السنوات العشر الأخيرة معركة الإصلاح والديمقراطية ضد القوى الانقلابية، ثم تُقْدِم على خطوة تعني إطلاق النار على رجليها وتجهيز منصات الإعدام لنفسها ومناصريها.
يبدو أن القصة بدأت حين استدعى المدعي العام رئيس الاستخبارات هاكان فيدان للإدلاء بأقواله بصفته مشتبهًا به في قضية اللقاءات مع قادة حزب العمال الكردستاني، واقتنع أردوغان آنذاك بأنه قد يتم استهدافه عن طريق تضييق الخناق على رجاله المقربين، وأن جماعة فتح الله كولن قد وسَّعت نفوذها في القضاء والمحاكم ذات الصلاحيات الخاصة، أي أن ما نشهده حلقة أخرى من سلسلة معارك النفوذ بين حكومة أردوغان وجماعة فتح الله كولن. ولكن ليس من المعقول والمقبول أن يتحالف أردوغان مع الكماليين المتطرفين ويضحي بجميع الإنجازات من أجل التغلب على هواجسه.