الإرهاب في ثوب النضال من أجل القضية

مشكلة حزب العمال الكردستاني ما زالت تستنزف قدرات تركيا وطاقاتها منذ أول عملية إرهابية قام بها عناصره في 15 آب (أغسطس) 1984 في هجومين مزدوجين استهدفا قوات الدرك التركية أحدهما في قضاء أروح بمحافظة سئيرت، والثاني في قضاء شمدينلي بمحافظة هكاري. ومنذ ذلك التاريخ إلى اليوم خلَّف هذا الصراع الدموي بين قوات الأمن التركية وحزب العمال الكردستاني عشرات الآلاف من القتلى والجرحى من كلا الطرفين، ولا يزال العدد- مع الأسف الشديد- في ازدياد.
وفي آخر هجوم لحزب العمال الكردستاني، قتل ثمانية جنود أتراك وأصيب ستة عشر آخرون خلال اشتباكات اندلعت الثلاثاء الماضي في منطقة داغليجا الجبلية بمحافظة هاكاري أقصى جنوب شرق تركيا على الحدود مع العراق. وكانت هناك بوادر تهدئة وأجواء من التفاؤل تسود وسائل الإعلام التركية قبل هذا الهجوم، خاصة بعد الحوار الذي أجراه الكاتب الصحفي التركي عوني أزغورل مع الرجل الثاني في حزب العمال الكردستاني مراد كارايلان الذي بعث فيه هذا الأخير رسائل تهدئة وسلام إلى الرأي العام التركي، بالإضافة إلى تصريحات النائبة الكردية المستقلة ليلى زانا التي أكدت فيها أنها تضع آمالها في أردوغان؛ لأن لديه كل القدرات على التوصل إلى تسوية للمشكلة الكردية. ولكن العملية الإرهابية الأخيرة نسفت كل الآمال والتوقعات وتبددت أجواء التفاؤل.
الحكومة التركية برئاسة رجب طيب أردوغان قدَّمت خطوات ملموسة باتجاه حل المشكلة الكردية سواء كانت في إطار الإصلاح وتعزيز الديمقراطية في البلاد بشكل عام، أو في إطار مبادرات خاصة، كما أن نتائج الانتخابات أكدت على الحضور القوي للحزب الحاكم في المحافظات ذات الأغلبية الكردية. وأعلن أردوغان مؤخرًا أن تعليم اللغة الكردية سيبدأ بدءًا من العام الدراسي القادم كمادة اختيارية في الثانويات العامة بعد أن انطلقت أول قناة باللغة الكردية في الأول من كانون الثاني (يناير) 2009. كما اتفق حزب العدالة والتنمية الحاكم وحزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، على التعاون في البحث عن الحلول للمشكلة الكردية، وصرح مساعد رئيس الوزراء التركي بولنت أرينتش أنه من الممكن الحديث في نقل زعيم حزب العمال الكردستاني من السجن إلى الإقامة الجبرية في البيت في حال ترك الحزب السلاح. ولكن كل هذه الخطوات الإيجابية اصطدمت مرة أخرى بصخرة الإرهاب.
حزب العمال الكردستاني، يرفع راية النضال من أجل القضية الكردية والدفاع عن حقوق الأكراد في تركيا، ولكنه يقوم بعد كل خطوة جادة في الاتجاه الصحيح بعملية إرهابية لعرقلة التقدم نحو التسوية؛ لأنه يعارض أي حل لا يخدم مصالحه ولو كان ذلك الحل لمصلحة الشعب الكردي، وأنه غير صادق في إظهار رغبته في السلام، بدليل أن المكالمات التي جرت بين الرجل الثاني مراد كارايلان وعناصر حزب العمال الكردستاني التي تم رصدها من قبل الاستخبارات التركية تؤكد أن كارايلان هو الذي طلب من عناصر المنظمة الإرهابية القيام بعمليات ضد القوات التركية على الرغم من استخدامه لغة أخرى أكثر ليونة في حواره مع الصحفي التركي وتقديم نفسه وكأنه رجل السلام ويختلف عن صقور حزب العمال الكردستاني.
وفي الحقيقة أن جوهر المشكلة أن يسعى حزب العمال الكردستاني لفرض نفسه ورؤيته على الشعب الكردي من جهة وعلى الحكومة التركية من جهة أخرى بالإرهاب والتهديد وقوة السلاح، وأن يتحول في الوقت نفسه إلى منظمة مرتزقة يستغلها أكثر من طرف في ظل المصالح المتشابكة والحسابات المعقدة إقليميًّا ودوليًّا، ما يجعل القضية الكردية لدى الحزب مجرد غطاء يتستر وراءها كل من لديه حسابات مع تركيا.
ولكن الجانب الإيجابي في الأمر أن يدرك كثير من القادة الأكراد حجم الأضرار التي يلحقها حزب العمال الكردستاني بقضيتهم، وأن يرفضوا استخدام العنف والإرهاب للحصول على الحقوق في ظل حكومة تبذل جهودًا للانفتاح وتحسين وضع البلاد من ناحية حقوق الإنسان بشكل عام وحقوق الأكراد على وجه الخصوص. وعلى رأس هؤلاء رئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني الذي أكد خلال مشاركته يوم الثلاثاء الماضي في تدشين بث اللهجة الكردية السورانية في محطة ''ت ر ت - 6'' الكردية التابعة لمحطة الإذاعة والتلفزيون التركية، أن عهد استخدام السلاح من أجل الحصول على الحقوق قد ولَّى، وأشار إلى أن استخدام السلاح يضر الشعب الكردي كثيرًا، ودعا الأكراد إلى البحث عن سبل الحل لمشاكلهم تحت قبة البرلمان.
ما يريده حزب العمال الكردستاني ويقصده بالحل هو أن تقدِّم الحكومة التركية إدارة المحافظات ذات الأغلبية الكردية إلى حزب العمال الكردستاني على طبق من ذهب ليكرس سيطرته بإقامة مؤسساته وبرلمانه وتوظيف عناصره المسلحة كقوات الدفاع عن تلك المحافظات، وهذا يعني أنه لا يفكر على الإطلاق في التخلي عن سلاحه. وأما ما تطلبه الحكومة التركية من حزب العمال الكردستاني أن تترك المنظمة الإرهابية السلاح دون أي شرط مسبق، كما شدد على ذلك رئيس الوزراء التركي في المؤتمر الصحفي الذي عقده يوم الجمعة الماضي بعد عودته من زيارة البرازيل.
يجب على الحكومة التركية أن تفرِّق بين مشكلة حزب العمال الكردستاني والقضية الكردية، وأن تواصل سياسة الانفتاح وتحسين أوضاع الأكراد دون تقديم تنازلات للمنظمة الإرهابية والتساهل في التدابير الأمنية؛ لأن مثل هذه التنازلات لن تسهم في حل مشاكل الأكراد، بل ستعقد الأمور أكثر وتؤدي إلى الشرخ بين الحكومة والشارع التركي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي