أبعاد النموذج الاقتصادي السعودي (1 من 3)

تبنت صحيفة ''الاقتصادية'' وعدد من كتابها توجهاً استراتيجياً للتخطيط لمستقبل الوطن، يقوم على ضرورة وجود نموذج اقتصادي يحدد الرؤية ويوضح الرسالة ويرسم الأهداف الاقتصادية مؤطراً بمهنية علمية، ومؤصلاً بمنهجية بيئية محلية ذات صلة بالواقع، ومرتكزاً على أبعاد تراعي المقدرت والإمكانات الذاتية، وتتسق مع الميز التنافسية في أبعادها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. وبقدر وجاهة هذا المطلب ورجاحته وضرورته تنعكس صعوبة بنائه وتحديد معالمه وأبعاده بمنهجية مؤصلة علما واستشرافا. إذ إن بناء النموذج الاقتصادي يحتاج إلى مزيد من البحث العلمي المتخصص الذي يجب أن تضطلع به وزارة التخطيط بمؤازرة من المتخصصين في الجامعات المحلية. وعلى أساس فرضياته تتم بعد ذلك الاستفادة من التجارب والشواهد والمقارنات والمرجعيات في الدول الأخرى. وهو ببساطة نموذج التخطيط الاستراتيجي التقليدي القائم على دراسة الوضع الراهن بكل أبعاده الحاضرة لاستشراف المستقبل بكل متغيراته المقبلة. والفرق أن هذا التخطيط يرتكز على نموذج علمي منهجي محدد لا يتغير بتغير الوسائل والأدوات ولا يتبدل سريعاً بتبدل الظروف والمصالح. هو كالعقيدة الراسخة في النماذج الاقتصادية العامة. تتبناها الدولة بحزم ويتقبلها المجتمع بقناعة ويعمل الجميع وفق إطارها وبحدود فلكها. فالتجارب الناجحة للدول أياً كانت هي مرتكزة على نظام عام متكامل أتاح لها مقدرات النجاح وتناغمت معها البيئة المحلية بكل أبعادها ليتحقق النجاح. ولا يمكن اقتصاص تجربة من بلد ما دون مراعاة بيئتها وظروفها المحيطة. وعلى سبيل المثال عندما ننظر إلى تجربة كوريا لا يمكن أن ننسب النجاح إلى بعد تقني أو تعليمي أو اقتصادي وحده كسبب رئيس للنجاح. كوريا لديها نظام حوكمة رائد، ولديها قدر من النزاهة كبير، ولديها نظام تكافؤ الفرص، ومؤسسات مجتمع مدني قوية، وبرلمان حر، ومساءلة علنية، وطبقية محدودة. كوريا لديها تعليم متكامل المراحل ومحدد المساقات، وثقافة مجتمعية سائدة تحترم العمل وتقدره، وموروث متنام لتقديس المهنية وتعزيز ممارساتها، وتوزيع متناغم لأدوار القطاعات العامة ومسؤولياته، وتكامل شفاف مع مؤسسات القطاع الخاص وواجباتها. وبدأت بتحديث ضخم وكبير لأنظمتها وإجراءاتها وقوانينها حتى تتسق مع خططها الطموحة للنهضة الحضارية المشهودة الآن.
حتى لا نوغل في التنظير مع أهميته في هذه المرحلة فإن الأطروحات الاقتصادية الحديثة تبنت عدداً من المفاهيم التنموية التي يحسن الاستفادة منها في تحديد معالم هذا النموذج المحلي للوطن. والبداية تنطلق من مفهوم ''النمو'' كنظرية اقتصادية مهمة لا تزال الدول تتمحور حولها وتنطلق من متطلباتها على الرغم من كل الدعوات العكسية الناقدة. فالدول منذ دعوات الاقتصادي الاسكتلندي الشهير آدم سميث صاحب كتاب ''ثروة الأمم'' وهي تنشد النمو الاقتصادي وتعمل على تحقيقه، أو بلغة تبسيطية أخرى فإنها تسعى جميعاً إلى أن تكون غنية. وتعددت الرؤى والأطروحات والنظريات التي أطرت الممارسات الدولية والعلاقات السياسية والاقتصادية على حد سواء، والتي قادت فيما بعد إلى تغيرات كبيرة في سيرة نهوض الدول وازدهارها. ومر الفكر الاقتصادي العالمي عبر العقود بحقب زمنية قامت على فرضيات العلماء الاقتصاديين وأطروحاتهم. ونادى الاقتصاديون في حقبتي الخمسينيات والستينيات الميلادية بضرورة تدخل الدولة في الاقتصاد الوطني بشكل مباشر وذلك بإنشاء الشركات، والتدخل في الأجور، وخطط استثمار الشركات، والعلاقات العمالية. كما أكدوا أن تقوم الدول بتشجيع الشركات على عمليات الاستحواذ والاندماج، وإعطاء حوافز مالية بمشاركتها بالتمويل ورأس المال. واعتبر الاقتصاديون هذه الإجراءات قادرة على دعم نمو الاقتصاد القومي بمعدل أعلى مما كان يتحقق في الماضي. ثم مر العالم الغربي بهزات اقتصادية وركود وبطالة ومواجهة مستمرة مع النقابات العمالية وأزمات مالية متعاقبة. أدت هذه الأزمات إلى تزعزع كثير من الأطروحات وظهرت حينذاك أطروحات جديدة للإنقاذ مثل الثقافة المؤسسية، والعودة إلى فرضيات الاقتصاد الليبرالي المتحرر من التدخل الحكومي في الشؤون الاقتصادية، كما برزت أطروحات علمية تفرق بين التوسع في الإنتاج الكبير والنمو. وقررت تلك الأطروحات أن أهداف الدول يجب أن تتحول من الزيادة في الإنتاج إلى مفاهيم النمو Growth والديمومة Sustainability. وظهرت أفكار لكيفية تحقيق النمو توسعت كثير من الدول في تطبيقها مثل فرضية روبرت سولو الذي حاز جائزة نوبل في الاقتصاد، حيث أوضح أن أمريكا والدول الصناعية في حاجة إلى التخلي عن النمو ''بالقوة الغاشمة'' وتبني مفهوم ''النمو الذكي''، ذلك النمو القائم على الإبداع والابتكار والتطوير. ومن تلك الأطروحات الحديثة الجديرة بالمراجعة والتأمل أطروحة بومول وزملائه من جامعة ييل ومنظمة كوفمان الشهيرة في كتابهم ''الرأسمالية الطيبة والرأسمالية الخبيثة'' المنشورة عام 2007، حيث قسم الباحثون اقتصادات الدول الرأسمالية الحديثة إلى أربعة أنماط هي أولاً الرأسمالية الموجهة من الدولة، حيث تحاول الحكومة توجيه السوق بمساندة صناعات معينة تتوقع أن فرصتها في النمو أفضل. ثانياً: رأسمالية القلة المسيطرة، حيث تتركز معظم الثروة والأنشطة الاقتصادية في يد مجموعة محدودة من الأفراد. ثالثاً: رأسمالية الشركات الكبيرة، حيث تقوم بأكبر الأنشطة الاقتصادية شركات عملاقة. رابعاً: رأسمالية ريادة الأعمال، حيث تلعب المنشآت الصغيرة المبتكرة ورواد الأعمال دوراً كبيراً في بناء الاقتصاد. ويرى الباحثون أن تلك الاقتصادات تختلف أشد الاختلاف، ما يؤدي إلى اختلاف معدلات النمو بين هذه التصنيفات اختلافاً متبايناً كان مرده وأهم أسبابه آليات النمو والابتكار وريادية الأعمال.
فأما الرأسمالية الموجهة من الدولة فهي توجد حيث تقرر الحكومات وليس أصحاب الاستثمار من القطاع الخاص، أي الصناعات، بل أحياناً أي الشركات تحديداً يجب أن تنمو، وبناء على ذلك توجه السياسة الاقتصادية الحكومية نحو إصدار مجموعة القرارات والأنظمة لمساعدة الفائزين المختارين. وتلجأ الحكومات في تعزيز هذا النمط إلى عدد من الوسائل لتوجيه النمو من أبرزها الملكية الصريحة للبنوك التجارية والشركات الكبرى، حيث تكمن القنوات الرئيسة لتحويل الموارد من أصحاب المدخرات إلى أصحاب الاستثمارات. وبهذا التوجيه تصبح الشركات ذات الميز التفضيلية (النماذج الوطنية) المشار إليها دوماً بالنجاح. ومن أهم سلبيات هذا النمط للاقتصاد الموجه من الدولة أن دعم الدولة وتوجيهها واحتضانها لن يكون بالضرورة مستديماً، فالظروف المحيطة بالدول، خاصة تلك المعتمدة على مصادر محدودة للدخل، تتغير من حقبة إلى أخرى تجاوباً مع الدورات الاقتصادية الدولية والعرض والطلب على سلعها المحدودة. كما أن تفضيل قطاع أو شركات دون أخرى تصاحبه مخاطرة في مدى نجاح هذا التوجه وصوابية اختيار القطاع المطلوب. خاصة أن التراجع عن المضي قدماً في دعم الشركات أو القطاعات التفضيلية يكلف الدولة كثيراً جداً. ومن عيوبه المشهودة في التطبيق، خاصة في الدول النامية، أن تصاحبه عادة ممارسات عدة من مظاهر الفساد الخفي والترهل السريع. أما الأنماط الأخرى والبعد المقترح للنموذج السعودي فسنناقشه في المقال المقبل - إن شاء الله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي