ترى الوعد رأس تنورة

أذكر في سني حياتي الأولى أن النقل البري كان الوسيلة شبه الوحيدة للحركة في أغلب مناطق المملكة. كان سائقو الشاحنات والسيارات الصغيرة يعتبرون أصحاب مهارات خاصة، وكان الجميع ينظر إليهم باحترام. فرضت المساحة الشاسعة للمملكة على الناس البحث عن وسيلة النقل الأسرع والأقل تكلفة للوصول إلى حيث يبحثون عن رزقهم.
البترول ذلك الساحر الأسود، الذي كان مصدر عيش الكثير من شباب المملكة في زمن ضاقت فيه الأرض بأبنائها وندرت مصادر الدخل، دفع أبناء القرى من مناطق المملكة المختلفة لركوب الطرق البرية الترابية للوصول إلى الشرقية، الأرض التي تعد بالثراء. كان السفر يمتد لشهر وشهرين حسب البعد عن الساحل الشرقي. تذكرت بيت الشعر الذي عنونت به مقالي وأنا أهم بالكتابة وهو من قصيدة يقال إن أبياتها تقول:

لا جيت من نشد عنا
قله ترانا بتنورة
ترى البحر قبلة عنا
ديار من تلعب الكورة
قله ترانا تمدنا
كل يولع بدافورة
وين أنت ياللي تبي ظهران
ترى الوعد رأس تنورة

السائقون كانوا ''يكدون'' هذه الخطوط القديمة، ويتعاملون مع زحف رمال الصحراء التي كانت تخفي ملامح الأسفلت الأسود. الضياع ومكافحة ''التغريز'' ودفع الشاحنات كانت أكبر هموم السائق والركاب.
في بلد تبلغ مساحته أكثر من مليونين وربع المليون كيلو متر مربع، وتحتل الصحراء ما لا يقل عن 70 في المائة من مساحته، كان لا بد من تحدي كل العوائق لإنشاء طرق تخدم سكان المملكة الذين كان أكثر من 80 في المائة منهم يعيشون في قرى وهجر متناثرة في الصحراء. هذا التحدي كان مركزياً في خطط المملكة الخمسية منذ بدايتها.
تقع على عاتق وزارة النقل مسؤولية إنشاء وتشغيل وصيانة هذه الطرق البرية. تنفذ الوزارة مهامها تحت ضغوط البيئة وتوسع النطاق بكفاءة عالية. تواجه الوزارة إشكاليات كبيرة بسبب الحاجة المستمرة إلى توسيع مساحات خدماتها، وصعوبة وضع أوليات تحكم انتشار الطرق في المملكة.
ظهرت ملامح الطرق السريعة عندما أنشئ طريق مكة المكرمة – جدة، الذي كان قمة في التصميم والتنفيذ عند افتتاحه. هذا الطريق الذي يخدم حجاج وعمار بيت الله الحرام أبرز اهتمام الدولة بتسهيل الطرق للمتوجهين للمناطق المقدسة، الأمر الذي أوجد المزيد من الطرق مثل طريق الطائف - مكة وطريق جدة - مكة السريع وطريق مكة المكرمة - المدينة المنورة، وأخيراً طريق المدينة المنورة - الرياض. تتصل المدن المقدسة بكل مناطق المملكة بطرق سريعة، إضافة إلى التوجه لإنشاء خطوط سكك حديدية تخدم الحجاج والمعتمرين.
تعتبر الطرق الجبلية التي تخترق سلسلة جبال السروات من أهم وأكثر الطرق تكلفة، وتعد مؤشراً على نجاح وزارة النقل في ربط سهل تهامة ومدن ساحل البحر الأحمر ببقية مدن المملكة. يبلغ طول الطرق التي تخترق الجبال أكثر من 500 كيلو متر، ويمكن تصنيف الطرق التي تخترق جبال مدينة مكة المكرمة والمشاعر المقدسة ضمن هذه المجموعة لتصل المسافة إلى نحو 700 كيلو متر.
لم يتجاوز مجموع أطوال الطرق في المملكة 239 كيلو مترا في عام 1372هـ، أغلب هذه الطرق لم تكن محمية من الانهيارات وحركة الكثبان الرملية، هذه المشكلة ظلت تعوق حركة العربات في السنوات التي سبقت الخطط الخمسية. بدأت الخطة الخمسية الأولى للمملكة عندما كان مجموع أطوال الطرق المسفلتة في المملكة لا يتجاوز 8500 كيلو متر. بعد مرور ثماني خطط خمسية، وصل مجموع أطوال الطرق في المملكة إلى أكثر من 193 ألف كيلو متر، منها 59 ألف كيلو متر من الطرق المسفلتة. كما تعمل الوزارة على إنشاء طرق مجموع أطوالها يتجاوز 22 ألف كيلو متر في مختلف مناطق المملكة.
تنفق الدولة بسخاء على مشاريع إنشاء وصيانة وتشغيل الطرق، وتعتمد باستمرار المزيد من الطرق السريعة التي تربط مختلف مدن ومناطق المملكة. تجاوزت مخصصات الطرق في ميزانية عام 2012 عشرة مليارات ريال. هذه المبالغ تشمل مشاريع إنشاء أكثر من 6400 كيلو متر من الطرق الجديدة. تواجه الوزارة قضية التعويضات التي تعوق الكثير من المشاريع، وهي إشكالية تعانيها وزارات أخرى وتحرم الكثير من المواطنين من خدمات الطرق. هذه الإشكالية يجب أن تعالج بطريقة تضمن حصول أصحاب العقارات الحقيقيين على مبالغ معقولة أو عقارات مشابهة لما نزع من أملاكهم.
كما يستلزم حسن الأداء أن ترسم الأولويات بحيث تضمن أن تخدم مشاريع الطرق أكبر عدد من المواطنين، وتحقق التوازن التنموي بين مختلف مناطق المملكة ومدنها، وتضع الحماية لمستخدمي الطرق كأساس يحكم المواصفات والمعايير المعتمدة عند التنفيذ.
يجب أن نعترف أن أداء الوزارة في مجال الطرق كان رائداً خلال السنوات القليلة الماضية. هذا التفوق يلاحظه مستخدمو الطرق من نواحي جودة تنفيذ الطرق وتوزيعها الذي شمل المناطق كافة. كما يتوقع المواطن المزيد من مشاريع الطرق التي تختصر المسافات في هذا البلد الشاسع.
ختاماً لا بد أن أذكر أن اهتمام الوزارة بالخدمات المقدمة على الطرق ونوعيتها وربط الترخيص لها بمعايير والتزامات في مجالات الخدمات والنظافة والتوزيع العادل، أمر يتمناه جميع المواطنين، خصوصاً أن أغلبية هذه الطرق تمتد لمسافات تتجاوز 500 كيلو متر، وهذا يتطلب التوقف والحاجة إلى استخدام المرافق المنتشرة على هذه الطرق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي