آه ياوسط البلد !
في كل عام لا بد لي أن أستحضرّ عبق الماضي وذكريات الطفولة عبر زيارة المنطقة المركزية التي نشأ فيها أغلب أهل جدة القدامى . أرتحلُ إلى وسط البلد تارةً مع أولادي وتارةً بمفردي وأقف في بعض الزوايا أسترجعني وأنا صغيرة في مدخل شارع قابل أركض حتى أصل إلى بداية سوق الندى مروراً بمسجد عكاش لأقف عند بائع الجبنة والزيتون أنتظر ابتسامة أبي وموافقته ليشتري لي ما أريد . وقبل آخر يوم من رمضان نادتني ملامح أبي وهدايا أمي العتيقة ، ووصلتُ بعد ازدحام خانق إلى ما يسمونه (وفق اللوحات الإرشادية) المنطقة التاريخية، متوجهة إلى شارع الملك عبد العزيز والسوق المركزي في وسط البلد.
أغلب الرحلة كان على الأرجل في محاولة لاسترجاع ذكريات الطفولة الشقية في قلب المنطقة التاريخية عند حارة البحر وسوق العلوي وسوق الندى . ومن مدخل شارع قابل رأيت العشرات من (أكشاك البليلة) مصطفة تخطب ودّي، وأكشاك أخرى لحلاوة العيد والشوكولاتة والحلويات الشعبية. كنتُ كمن أعادوها طفلةً صغيرة ورموها في أحضان المباني والطرقات و المارّة ، لذلك مشيت الهوينا علّ الذكرى ترفق بحالي .
عين الرضا لم تكن عن كل عيبٍ كليلة في رحلة استرجاع الذكريات وأولها إحساسي بالزحام الخانق ومئات السيارات وآلاف الرؤوس من العمالة الآسيوية تبيع سلعتها عبرالمحاّل الصغيرة وفوق الأرصفة ببسطات متنقلة وبضائع مقلدّة ووفق أدنى معايير النظافة وأفقر مستويات التنظيم ! قلب المنطقة التاريخية (الكنز الضائع) ليس إلا تجّمعاً فوضوياً لعمالة سائبة ترتعُ بين أكوام قمامة ، وجوه تستجدي من الفاقة وأخرى ترتاد مطاعم منتشرة تستهدف العمالة الفلبينية والبنغالية على وجه الخصوص، سيارات الأجرة تتقافز من مسار لآخر ورجال مرور ليس لهم وجود ! مشيت على أقدامي إلى أن أنهيت سوق الندى متوجهةً إلى سوق العلوي حيث بيت نصيف لأفاجأ بأنه لن يمكنني العبور لامتلاء النفق بمياه المجاري وتعذر السير مشياً على الأقدام ! تخيلوا العيد في الغد والمكان غير مهيأ ولا يوحي بعبق التاريخ ولا بكونها منطقة تاريخية أثرية قيّمة يتم المحافظة عليها ! وتخيلوا أيضاً أنه على مقربة من نهاية النفق وإلى جوار المياه الآسنة يوجد بسطة لبيع الكبدة (للعم أبو ديمة) والناس منتشرون ويأكلون ؟!
ليتني أعرف من هو المسؤول الحقيقي عن كل هذا لأسلط عليه من يمسكه من حول الرقبة (دون أن يؤذيه) ويهدد الاهمال عنده ، علّه يستيقظ ويتذّكر حجم المسؤولية وتبعات أداء الأمانة! فقلب جدة النابض يقدم خدمات رثّة في جلباب مرقّع لا يُعرف له صاحب ! منطقة وسط البلد تحتضر ومازلنا نسمع عن مشاريع وإزالات وترميمات وفوقها حرائق عشوائية تعجز آليات الدفاع المدني عن إخمادها في لحظتها ؟! فهل كتب الله على الذكريات في هذه المنطقة أن تدفن فلا تنتعش أبداً ؟! بيت نصيف مغلق أغلب الوقت ولا وجود لمتاحف مفتوحة تُبرز أصالة هذه المنطقة وتاريخها ومدى الاهتمام بها ! لانظافة ولاوجود لمرافق متميزة ! الأرصفة متهالكة لاتلائم في تصميمها طابع المنطقة ! البيوت الأثرية مهجورة ومتهالكة، والازدحام بالعمالة الوافدة لا بد له من حل ! لابد من تشجيع السياحة في المنطقة التاريخية وإحياء عبق الأصالة وتحسين البيئة المحيطة والارتقاء بمستويات الخدمات المقدمة. عليه فإني أنتظر وكلي أمل من وزارة الشؤون البلدية والقروية (أمانة جدة) أن تفعل شيئاً . يفترض من إدارة حماية المنطقة التاريخية أن تفعل شيئاً ! وأنتظر من المحافظ أن يفعل شيئاً... كما يُفترض من ... أن يفعل شيئاً ! لابد من تغيير الحالة الثقافية والإنسانية لهذه المنطقة قبل فوات الأوان.
أهالي جدة لازالوا صابرين لم يفقدوا الأمل، فعذراً أيها الذكريات ، عذراً يا بيتنا في حارة البحر .. والمعذرة منكم ياحارات المظلوم والشام واليمن والرويس، أريد ذكرياتي طاهرة باقية لا تموت ... فرجاءً أعيدوها لي عاجلاً.
يا جدّة مهما فعلوا بك ... فالهوى فيك ِحالم ٌلا يفيق.