عقلاء الأندلس

العقل نعمة وهبها الله لنا وميزنا به عن باقي مخلوقاته . منا من يحسن العمل به , ومنا من هو متخبط ويحسب أنه يحسن صنعا. وقد قيل في الأمثال إن " العقل زينه " , فهل كانوا يقصدون أن ضبط النفس وعدم التصرف بروعنه هو العقل . أم أن المعنى يحتمل أكثر من ذلك , فقد يكون وضوح الرؤية والفكر المنهجي الذي يوافقه سلوك منضبط هو العقل بعينه.

جاء رجل من الأندلس إلى بغداد مشيا على الأقدام يحمل معه حلمه الذي أصبح هو رؤيته وواقع يعيشه. ولم يكن في زمانهم سيارات ولا قطارات فضلا عن وجود الطائرات بل إنه لم يكن يملك ثمنا لدابة تحمله ! , فلم يمنعه ذلك كله من بلوغ غايته فقد كان يريد بغدادا لا لسياحة ولا لترفيه بل لهدف واضح , وهو أن يلاقي رجلا واحدا فقط . فقد سأل عنه فقيل له أنه إمام المسلمين وعالم زمانه , فلما وصل إلى داره وطرق بابه خرج له الإمام فقال الرجل : لقد جئتك من الأندلس لا أريد إلا لقائك , فرد عليه الإمام: إن موضعك لبعيد و إني قد منعت من مخالطة الناس والحديث إليهم , فقال له الرجل الأندلسي إني غريب عن الناس فأذن لي أن آتيك كل يوم متنكرا, فقال له الإمام: على شرط أن لا تخالط الناس ولا تذهب إلى مجالس المحدثين فقال: لك شرطك . فكان الرجل يأخذ عصا بيده ويلف رأسه كأنه متسول ويطرق باب الإمام ويقول له : الأجر رحمك الله , فيدخله الإمام إلى داره , ويحدثه بالحديث أو الاثنين أو ربما الثلاثة , ودام الحال على ذلك حتى رفعت المحنة عن الإمام احمد ابن حنبل . فكان الإمام بعد ذلك يحدث الناس بتلك القصة , ويسمى بقي ابن مخلد "عاقل أهل الأندلس".

وهناك حادثة أخرى تدل على رجاحة العقل وضوح الرؤية التي لديهم , فقد روي أن الإمام مالك كان يحدث في مجلسه , فإذا برجل يهرول ويصيح بأعلى صوته : لقد جاء الفيل إلى المدينة , فهرع الناس وانفضوا من المجلس , ولم يبقى إلا رجل واحد , فقال له الإمام : لما لم تخرج لترى الفيل . فرد عليه يحيي ابن يحيي قائلا: أني لم اترك أهلي في الأندلس , من أجل فيل ! . بل جئت إليك لطلب العلم فأعجب به الإمام مالك وسمّاه " عاقل أهل الأندلس ".

فما الذي كانوا يملكونه ونحن نفقده مع إنه لم تتوفر لديهم الإمكانيات و الوسائل التي نملكه نحن اليوم.لقد كانوا يعرفون ماذا يريدون فلا يحيدون عنه مهما كانت الظروف والمحن, فلم يكونوا يتحججون ببعد المكان أو الزمان, و لم يكونوا يتكاسلون ويعتذرون بقلة الموارد أو القدرات.

نحن اليوم لا تنقصنا تلك القدرات أو الإمكانيات, بل نحن نملك من الوسائل أضعاف ما كانوا يملكون, ولدينا كم هائل من العلوم والمعارف. إذا أين تكمن المشكلة ؟ . إن المشكلة هي من عند أنفسنا لقد فقدنا أو ضعف لدينا ذلك الدافع الذاتي الذي كانوا يملكون.

ذلك هو المحرك الذي يفجر تلك الطاقات فتتحول إلى عمل وليست مجرد أحلام نتسامر بها , سنظل نسير في نفس المكان حتى ولو تغير بنا الزمان ما لم نلامس ذلك الدافع , وهذا الذي فطن له عمر رضي الله عنه فقال : "اللهم إني أشكو إليك جَلَدَ الفاجر وعجز الثقة".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي