بحق علي .. وبحق معاوية!
متسولان ذكيان اتفقا على التظاهر بالعمى يجلس أحدهما إلى يمين مدخل جسر الرصافة في بغداد وإلى يساره ومقابل له تماما يجلس صاحبه الثاني.. وينادي أحدهما بالعابرين:
- بحق علي بن أبي طالب عليه السلام، زوج البتول، أبو الحسنين، أعطوني وتصدقوا عليَ!
فيرفع الثاني عقيرته:
- بحق معاوية بن أبي سفيان، كاتب الوحي، وأمير المؤمنين تصدقوا علي، وأعطوني مما آتاكم الله من فضله!
وبعد صلاة العشاء، وفي زاوية غير بعيدة عن الجسر يتقاسم المتعاميان صدقات علي ومعاوية!
تحضرني هذه القصة دائما وأنا أقرأ أو أسمع ''مرتزقة المذاهب'' الفئة التي تأكل بدينها، وتأكل الناس بتجارة التمذهب!. تأتي المطالب بالغوث والمدد تارة لعلي وثانية لمعاوية، لا حبا في هذا ولا كرها في ذاك، لكنها تجارة متقادمة جدا، قدم العقول التي لا تستعمل، حين يكون الطالب للمال، قد تلبس لحية وعباءة وعمامة ومسبحة صلاة، وسواك السنة من تمام الندب.
قنوات مذهبية تتكاثر مثل حب الذرة وكل واحدة منها تستغيث طالبة المدد المالي والتبرع نصرة لدين الله وقياما بالحق! وطلبا للمثوبة والأجر! أحد أصحاب هذه القنوات طلب 50 مليون دولار (187,5 مليون ريال) من أجل عدم إغلاق قناته لمدة عام واحد فقط! وهذا مبلغ يقارب تكلفة بناء 187 مدرسة حول العالم الإسلامي، أو حفر أكثر من سبعة ملايين بئر لفقراء المسلمين حول العالم! وعلاج ملايين المرضى، أو إغاثة مليون مسلم يمني تحت خط الجوع حاليا، وهم ذوو قربى لنا جميعا، وكل هذه الموارد في الصرف، أهم من قناته الفقيرة جدا في نسبة المشاهدة! هذه القناة في نظر صاحبها هي نصرة للحق وللدين، وهذا يكفي لقبض 187 مليون ريال سعودي في كل عام! وحين رفض طلبه، حول القناة إلى ''قناة معارضة''، وتحول هو بقدرة قادر إلى داعية حقوقي وناشط إنساني، يفضفض ليس أكثر عبر الأثير المفتوح عن الحقوق التي للتو وبعد قرار رفض الطلب المالي تعرف عليها وبلغها علمه، وانتهى إليها فهمه!
شيخ شيعي يفتح قناة في لندن.. ويجعلها متخصصة في شتم وقذف وتحقير كل الصحابة الذين يحظون بتعظيم وإجلال عظيم في قلوب المسلمين والذين يصفهم الله بخير أمة أخرجت للناس! منتهكا بهذا أبسط قواعد الفقه والدين والتعايش بين المسلمين وحقوق حرية التعبير في عدم التطاول على معتقدات الغير. وأن حريته تنتهي حين يعتدي على المقدس المصان عند غيره، مثيرا الضغائن، محرضا على الكراهية، شاغلا وعي وضمير وقلوب الناس بما لا خير ولا نفع فيه! لماذا هذا التنطع بما ضرره بيّن وشره عظيم، وفتنته بالغة وقد خلت قرون متعاقبة تلتها قرون وفي ظرف الله أعلم بمنتهاه!
هناك بحق معاوية! وهناك بحق علي! الأهم هو الدفع من العقول المؤجلة عن حضور الوعي فيها، حتى إشعار آخر.
الرسائل تأتي من كل مكان من طرفي جسر الرصافة، والأعمى الحقيقي هو الذي لا يبصر من حوله ولا ما حوله! الأعمى الحقيقي هو من يسهم في خطف وعي الناس، وإشغال الأمة بصراع مضى عليه 1433 عاما كاملة! عوض أن يدفع لتعليم الفقراء، وحفر آبار لهم، وإغاثة الملهوف الذي تعاني بلادهم التصحر والجفاف وقلة الموارد! أو التفريج عن المكروبين الغارمين لديون صغيرة وهم مسجونون بسببها في بلده ومن أبناء جلدته وليسوا عنه ببعيد على مسافة شارع واحد، أو حي واحد، عن السجن العام! في منطقته.
مع غياب التشريع الرادع على مستوى دول العالم الإسلامي، نحتاج إلى يقظة ووعي يحض على التعايش وعلى تجريم جمع التبرعات الفردية، لأسباب طائفية يُثري بها من لا ضمائر ولا قلوب لهم ويدفعها المستغفلون حول العالم بحماسة التدين الساذج وقلة الوعي.
ولو تكشفت بعض الأرصدة من هنا وهناك لوجدنا أن يمين وشمال (جسر الرصافة) هو العائد الربحي المذهل برأسمال (العاطفة الدينية) المشوبة بالتعصب والعصبية للمذاهب، وببضع كلمات تسحر وعيك وتجعلك أعمى لا تبصر شيئا، إنها كلمة السحر (بحق علي) و(بحق معاوية). وأبناء الخليج (دفيعة) كما يعبر (أحد القابضين في مقطع يوتيوب)! وهو يبتسم ابتسامة الرضا، المشوبة بنظرة مهينة لهم.
بعد كل قصة نسوق لهم دليلا جديدا على أننا ما زلنا في طور تفكيك المفردات، ولم نبلغ قدرة تكوين الجمل المفيدة لحاضرنا، وصناعة مستقبلنا بعد!