من المُواء إلى الزّئير !!
تَمُوءُ القِطَّة برقة مُستجدية عطف السّامعين كي يُلقوا إليها فضلاتهم وتبقى مُهانة، والأسد يزأر في قوة واعتزاز ليجلب لنفسه طازج اللحوم ويبقى مُهاباً، والناس لا يذكرون للقطة قصصاً وهي الأليفة بينهم، بينما يتبارون في الحكاية عن الأسد وقوته وشجاعته واعتزازه بنفسه، حتى القديم قد انحاز إلى الأسد، فسمّاهُ أهل الفصاحة والبيان في الجزيرة العربية بأكثر من ثلاث مائة وخمسين اسماً، كناية على شديد اهتمامهم به، وهو الكاسر المتوحش المفترس!، في حين أطلقوا على القطة ما يقرب من عشرة أسماء فقط، وهي الودودة الرقيقة!.
الناس - فرادى وجماعات وأمم - على مدار تاريخهم لم يقيموا - بلسان المقال أو الحال - وزناً إلا للأقوياء وإنْ أبدوا تعاطفاً مع الضعفاء، بل التاريخ ذاته لم يُسود صفحاتٍ أكثر في سجلاته إلا لأولي القوة والشكيمة، أفراداً كانوا أو أمماً، وإنْ ذَكَرَ أهل الضَّعف والاستكانة ذكرهم شذراً وعلى استحياء، وكأن للقوة جاذبية تسرق العيون والألباب والقلوب، بل وصفحاتِ التاريخ!.
إذن، وما ذنب الضعفاء الذين خُلقوا كذلك؟!، هذا سؤالُ من لا يعرف أنّ الإنسانَ كائنٌ غير مُسيّر في شئون حياته، أي يملك إرادة يحركها عقل وهنا مكمن القوة الحقيقية، فعمل العقل يتمثل في التفكير والتدبير والتخطيط، وعمل الإرادة يتمثل في إخراج عمل العقل إلى الوجود بصيغة ما، وهنا لابد من إلقاء الحقيقة الآتية على المسامع: إنّ الإنسان كائن قادر - وفقاً لما سبق - على صناعة واقعه أو رسم ملامح وتفاصيل حياته على النحو الذي ينشد، متى سعى وطرق الأسباب المُؤدية إلى ذلك.
والناس في منحة العقل وهبة الإرادة متساوون، وما تقسيمهم إلى ذكي وغبي، ونشيط وكسول، وإيجابي وسلبي، إلا وصفاً لحال الإنسان الظاهر في أوقات معينة، وليس تعبيراً عن حقيقة مؤكدة دائمة فيهم، فالذكاء والنشاط والإيجابية مسائل نسبية، فرُبّ ذكي في حل المعادلات الرياضة، غبي في النحو والصرف مثلاً، والعكس وراد، وربّ نشيط في ممارسة الرياضة، كسول في أداء الصلاة مثلاً، والعكس ممكن، وربّ إيجابي في شئونه الخاصة، سلبي في الشأن العام مثلاً، والعكس محتمل، وهكذا، وبالتالي فالملكات العقلية والإرادية للإنسان لست كمّاً ثابتاً كما نقرر في معظم الأحوال.
أستطيع القول بأن الإنسان قادرٌ على صُنع حياته من الزاوية التي يراها، إذ لم يُمنح الفرد الواحد إلا قدرة تعينه على الرؤية من زاوية واحدة في ظل محددات الزمان والمكان والأحداث المُحيطة، ولعل في ذلك دعوة إلى التركيز والتدقيق والإتقان، فإذا برع مجتمع من الناس في زمان ما وفي مكان ما في إتقان فن الحياة من خلال زواياهم المُختلفة.. تكاملوا، لأن الحياة تحتاج إلى بصمة كل واحد منهم على حدة، وتحتاج إلى بصماتهم مُجتمعة في ذات الوقت، وما تأخرت حياة البشر في بقاع معينة من الأرض إلا لأن أهلها لم يدركوا أهمية أدوارهم في دفعها نحو أطوار أفضل، مُعتمدين على من ينظر لهم وينتج نيابة عنهم، وأنى له؟!.
كنت قد كتبتُ مقالاً في الاقتصادية السعودية بتاريخ 4/12/2009م تحت عنوان «الأفكار الكربونية!!» قلتُ في أحد فقراته «الطفل العربي يولد بملكات ومواهب وطاقات هائلة، تبرز في نشاط بدني مذهل، وفى محاولات دائمة وحثيثة على الاتصال بالعالم المحيط، وفى قدرة ملفتة على التعلم والتلقي والمشاركة، لكن الشيء المؤسف حقاً أن تشهد تلك الملكات تراجعاً متصلاً كلما تقدم الطفل بالعمر، حتى تصل إلى مرحلة الضمور في المرحلة التي يجب أن تكون متقدة ومتوهجة، ذلك لأن الطفل في البيت وفى المدرسة وفى غيرهما يظل وعاء يدلى كل فيه بدلوه، تحت مبررات التربية والتكوين والتدريب، والحقيقة أن لدى مجتمعاتنا حين تعلم أو تربى رغبة دفينة في جعل الطفل نسخة مكررة من أبيه في البيت أو معلمه في المدرسة، في مشهد يجسد نوعاً من الأنانية الفكرية، التي تفضح ادعاءات الكمال في البيت وفى المدرسة وفى كافة دور التعلم».
ويبقى هاجس.. وما علاقة الإنسان بالأسد والقطة؟!، الإجابة: من العوالم الأخرى المحكومة بالفطرة نتعلم الكثير، فالأسد يعرف ماذا يريد فيسعى نحو تحقيقه تخطيطاً وتنفيذاً، ليضمن له ولنسله البقاء والهيبة، وقد فرض الأسد قانونه - وهو ليس الأقوى - ولكنه الأكثر إصراراً على ذلك، ولذا سُمّي ملك الغابة، أما القطة وهي من نوعه فآثرت التمحك والتودد والمواء والتأقلم على مزاج صاحبها، فإنْ أعطاها عن سماحة أكلت وهي مُطمئنة، وإنْ أهملها فضربها الجوع خطفت وهربت، وإنْ طردها راحت تتفقد صناديق القمامة.
هل علمتم أيها الأفاضل كيف نُربي القطط؟!.