نـَحْـتُ الكـلمة !!

أعني تماماً هذا العنوان، وأقصده في وقتٍ يتعرض فيه فنُّ الكلمة لهبوط حاد، لغة، وسبكاً، وإملاءً، وهو أمر يُعَرّضُ سوق الكلمة للركود والبوار، إذا احتكمنا إلى منطق العرض والطلب، ما لم نستلهم هِمَّة من بنوا لهذا الفن الرفيع أجمل بنيان، من حروف وكلمات وجمل نزل بها وحي الرحمّٰن.

لا شيء يؤذي عين كل غيور ويُدمي قلبه أكثر من مشاهد ذبح لغته العربية بنصل بارد في ديار ورثة أهل الفصاحة والبلاغة والبيان، وما أنينها المكتوم في ميادين التعلُّم، والكتابة، والحديث.. في المدارس، وفي الصحف والمواقع والمنتديات، وعبر التلفاز بفضائياته التي لا حصر لها، إلا إشارات دالة على درجة امتهانها بين أهلها وذويها.

قديماً، كان الاعتناء الشديد بلغة القرآن شعار أرباب الكلمة ودأبهم في تركيبها وصياغتها وإخراجها، وكان عيباً كبيراً أنْ تُترك همزة أو فاصلة أو نقطة، أما أخطاء النحو والإملاء فمُحالٌ أن يكون لها فيما يسطرون أو يقولون مكان، ذلك لأن اللغة قد اختلطتْ بعظامهم ولحومهم وأعصابهم ودمائهم، فصارت شهيقهم وزفيرهم، إذ كانت المسألة لديهم عقيدة هوية ووجود.

الآن، حدّث ولا حرج، فلقد ضرب التهاون والإهمال لغتنا كما ضرب أشياء كثيرة في حياتنا، فلا اكتراث بإنتاج الكلمة شكلاً ومضموناً، إلا في أماكن وكيانات قليلة ما زالت تحمل لها تقديراً وإجلالاً، وما عداها من مؤسسات مهمتها الأصيلة هي الكلمة، فلا كلمة، والأمثلة لا تُحصى من فرط كثرتها، خاصة وأن المأساة قد تحولت إلى عادة لا تؤرق أحداً.

لكن المؤسف حقاً، أن يغيب بريق حرف اللغة العربية الساطع عن ألسنة وأقلام بعض من يُسَمونَ بالمفكرين أو الكُتّاب أو الدعاة، والمُتفقدُ لفضائياتٍ أثقلت ظهر الأثير بلا مبرر، ولكثير من صحف الكترونية وورقية انتزعت ترخيصاً في غفلة من الزمن، لن يعييه حصر عشرات الأخطاء في النطق وفي الكتابة، هذا في وسائل الإعلام التي من المفترض أن تقدم الفكرة والمعلومة في وعاء اللغة العربية بطريقة سديدة.

حدثني صديق بُعثَ إلى بريطانيا في دورة تدريبية على تجويد التعلّم باللغة الانجليزية، فقال: الانجليز يعشقون لغتهم بشكل مُفرط، ويَصِلون ليلهم بنهارهم من أجل استنبات مفردات جديدة لدفعها إلى حرم الانجليزية ليظل نهرها جارياً ومؤثراً، وهم يسعون بدأبٍ لخلق تراكيب لغوية جديدة، لا يغفلون البتة عن فن نطق المفردة أو ما يعرف بالصوتيات، ليقينهم بأن حسن الإلقاء عامل جاذب ومروج لها، وتُعد جريمة عندهم أن يأتي حرف «H» بعد حرف «T» ولا يتم إخراج طرف اللسان بين الأسنان على هيئة نطق حرف «الثاء» في لغتنا الجميلة.

قارن بين هؤلاء وبيننا كعرب حين نخلط نُطق القاف بالكاف، والسين بالصاد، والضاد بالظاء، وحين ننطق الثاء مثل السين، والذال مثل الزاي.. وهكذا، رغم أن لدينا علم يُسمى علم التجويد، نرتل وفقاً له آيات الذكر الحكيم، الذي ما إنْ طبّعنا عليه ألسنة أطفالنا منذ الصغر إلا ومنحناهم فصاحة وطلاقة وبيان. ما يحدث في نطق الكلمة يحدث في كتابتها، وأعلم جيداً أنّ المراجعين اللغويين لدى الصحف المُحترمة يواجهون عملاً شاقاً وهم يراجعون مواد الرأي والمقال تحديداً، علماً بأن هذه المهنة كانت من قبيل الترف في الماضي من الأيام، إذ لم تكن المواد في حاجة إلى مراجعة لغوية من الأصل، لدقتها الشديدة.

في رأيي المتواضع، أن منبع هذه المشكلة ينصرف إلى شقين، شق تمثله الأسرة، وشق تمثله سياسات التعليم.. فالأسرة التي تهمل تنمية الذائقة اللغوية لدى أطفالها منذ الصغر بإهمال التواصل الحميم بمفرداتها الثرية، والتهاون في ترتيل وحفظ القرآن الكريم، ثم الحرص على دفعهم في مدارس اللغات الأجنبية منذ مرحلة رياض الأطفال، لترتكب أكبر خطأ في حق هوية الأمة والحاملين لها، ثم حرص وزارات التعليم في الوطن العربي على تجويد التعلم بلغات الآخرين بإيفاد معلميها إلى بلاد هذه اللغات دون أن ينال معلمو اللغة العربية قدراً مماثلاً من الاهتمام، لهو حضٌ خفي على التهاون في حقها وحق من يُعلِّمها وحق من يَتعلّمها.

آن الأوان لندرك أن لغتنا العربية هي جذرنا الذي يثبتنا في أرض التاريخ، فإن تخلينا عنه ماتت ثقافتنا ووئدت فكرتنا وضاع تاريخنا وذهب ما تبقى من هيبتنا.

آن لأهل العلم والفكر والرأي أن يعلموا أن الآخرين يقيسون تعلقنا بلغتنا من خلال ما يقولون وما يكتبون.

آن لكل كاتب أن يفهم أن الفكرة الجيدة تذهب أدراج الرياح ما لم تُصَغْ كلماتها بحرف عربي مبين، وكما يسعى الكاتب العربي لترجمة كتابات الآخرين، فلماذا لا يسعى الآخرون لترجمة ما كتب؟!.

إنّني أراه تحدياً.. أن نسعى بشغف نحو امتلاك إرادة قدِّ ومشق ونحت الكلمة العربية، كما يفعل الرّسام بلوحته، والنحّات بتمثاله، كي ينتعش بريق اللغة الخافت من جديد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي