ويلاتُ «الأنا» !!

الله لم يخلق آحاداً في الحياة.. يُفهم ذلك من قوله تعالى « ومن كل شيء خلقنا زوجين»، كذا وضع - سبحانه - في كل مخلوق فطرة تجعله في شوق دائم إلى التعدد، وكأنه - جل وعلا - يثبت الوحدانية لذاته العليّة وينفيها عمن سواه بحركة الأحياء في الحياة.

والإنسان كائن اجتماعي بفطرته وطبعه، يدفعه إلى ذلك جوانب نقص تتمثل: في ضعف، أو خوف، أو حاجة، فيتلَمّس الطريق لسدّها لدى آخرين يحيون معه في ذات المُحيط، ويعانون - بطبيعة الحال - من جوانب نقص أخرى تتباين ارتفاعاً وانخفاضاً، فيميل هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، بحثاً عن الاكتمال، وبذا تنشأ علاقات اجتماعية بأشكال متعددة، أسرية، أو إنسانية، أو تجارية، أو خلافه، وعليه فلا استغناء للفرد عن الجماعة في أي مرحلة من مراحل عمره، لأن كل مرحلة عمرية تفرز مُتطلبات جديدة، وبذا تظل حالة التصاق الفرد بالمجتمع قائمة ومُتصلة.

وعلى طريق تحقيق الهدف الكبير من وجود الإنسان ككائن اجتماعي متطور على الأرض، تبزغ بعض النزعات الفردية لإلهائه عن مهمته الأساسية، مثل الأثرة والأنانية، فينحى نحو مسالك أحادية تتعارض مع الصالح العام، تارة باستغلال مُقدّرات المجتمع وتوظيفها لأهدافه الخاصة، وتارة بالضرب على وتر الشرذمة والتفرق بحثاً على مجد شخصي، وتارة بإحياء عصبيات وقبليات تصبّ في مجرى أيديولوجيات تعارض بلا رؤية ودون مبرر مقبول.

الواقع، هذه صور تعبر عن داء عُضال يصيب النفس البشرية، ويمثل خطراً على المجتمع، فحين يتشرنق كل فرد على ذاته، ويتقوقع على أهدافه، ويجنح للعيش في جزيرة مُنعزلة.. يفكر لنفسه، ويخطط لنفسه.. تكثر الجزر وتتعارض الأهداف، وفى مرحلة ما تتوقف الحياة، وتداهمها شيخوخة مبكرة تصيبها بالعجز والتخلف، إذ لا تمضي الحياة إلى الأمام منتشية إلا بتكاتف وتآلف ووحدة، وإن اختلفت الرؤى وتعددت الفلسفات، ما دامت كل الأبصار والبصائر والجهود موجهة نحو الهدف النهائي وهو: تحقيق صالح المجموع، أو الصالح العام.

لقد كان الدين حكيماً حين حذر من الأنانية وحب النفس، بل وعلق الفلاح في الدنيا والآخرة على شرط محبة الإنسان لأخيه الإنسان.. قال الله تعالى { وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }، كذلك نفى الإيمان عن أولئك الذين تمكنت الأنانية منهم، فقال من لا ينطق عن الهوى « لا يؤمن حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه »، وفى بعض الآراء لا يكتمل إيمان المرء حتى يحب الخير للناس مثلما يحبه لنفسه، وفى كل الأحوال كان الإسلام حريصاً على إقامة علاقات إيجابية بين أفراده من ناحية، وبين أفراده والآخرين من ناحية أخرى، في إطار من المحبة والألفة والتسامح وإزالة كل ما من شأنه أن يعكر صفو هذه العلاقات، ولذا ذمّ الإسلام الأنانية، والبخل، والشح، وكل دعوة من شأنها تقطيع الأواصر وتمزيق الوشائج.

جدير بالذكر، أن الدعوة إلى الأنانية والفرقة باسم الدين هي دعوة لا يقبلها عاقل لأنها تقوم على فكرة الشرنقة والعزلة عن الواقع، وتكرس لتناثر فرق وجماعات تفكر بطرق متضاربة وتنتهج أساليب متناقضة، ويتطور الأمر إلى تراشق وتناحر يهدد أمن وسلامة المجتمع.. قال الله في كتابه لرسوله، وجميع أفراد الأمة مشتركون معه في التحذير {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}، فليس من المقبول أن يُتخذ الدين وسيلة لتفتيت المجتمع إلى فرق وجماعات تحت دعاوى الإصلاح أو التربية أو من شاكل، ببناء انتماء مُزيّف لهذه الجماعة أو تلك، يفوق في أحيان كثيرة الانتماء للأسرة والمجتمع والوطن.

إنّ الأنانية مرفوضة على مستوى الفرق، كما إنها مرفوضة على مستوى الأفراد، ولذا فإن التحرر من التعصب للأفكار والأشخاص يعد مطلباً رئيساً في البناء الفكري والثقافي لكل فرد في المجتمع، لأن كل فكرة لا تعلو على المراجعة والنقد البنّاء، وكل شخص لا يملك عصمة تحصّنه من النقد والتوجيه، بشرط أن يتم ذلك في جو لائق ومحترم من ثقافة الحوار الهادف مع احترام حق الاختلاف، بغية الوصول إلى نقاط التقاء وعوامل مشتركة.

نحن في أمس الحاجة إلى التحرر من سجن الذات.. نحن في أمس الحاجة إلى كسر شرنقة «الأنا».. نحن في أمس الحاجة إلى ثقافة «نحن».

أعان الله كلاً منا على نفسه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي