سياسة الابتعاث وإعادة هيكلة الاقتصاد
ابتعاث الطلاب والطالبات للدراسة في الجامعات العالمية أحد أهم وسائل تنمية الموارد البشرية على الأقل من الناحية النظرية ومن واقع تجارب كثير من الدول التي تقدمت في سباق الصناعة والاقتصاد العالمي. ولا شك أن إحداث تغيير في البنية الاقتصادية والنظم الاجتماعية والسعي في اللحاق بركب الأمم المتقدمة يتطلب ثقافة اجتماعية جديدة وفكرا اقتصاديا مبدعا ومبتكرا وتوجها نحو الصناعات التحويلية، وهو ما يرجى أن يفعله الابتعاث الخارجي. إذا سياسة الابتعاث تتطلب أن تكون ضمن منظومة متكاملة واستراتيجية وطنية موحدة تسهم في تنفيذها جميع القطاعات العامة والخاصة وعموم المواطنين. دون رؤية مشتركة وعمل وطني تكاملي والنظر للابتعاث على أنه أحد عناصر التنمية الاقتصادية وليس الوحيد سيتحول العائدون من الابتعاث إلى عبء كبير وسنبدأ آنذاك في التفكير في حلول وقتية كردة فعل وإدارة أزمات. وهنا لا بد من طرح تساؤلات مهمة وأساسية: لماذا الابتعاث؟ وما الدافع وراءه؟ وما المرجو منه؟ طرح هذه التساؤلات ليس من باب الاعتراض على الابتعاث أو التقليل من شأنه، ولكن عمل الأشياء برشدانية وحكمة يقتضي مبررات منطقية وترابطا بين الفعل والنتيجة. في بعض الأحيان يسيطر اعتقاد على المسؤولين في كثير من الدول النامية أن أسهل وأسرع السبل لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية هو في تنمية الموارد البشرية، وأن ذلك كفيل بتحول المجتمع إلى مستويات أعلى من الإنتاجية الاقتصادية والصناعية. وهذا أشبه ما يكون بمن أضاع شيئا في مكان مظلم وذهب يبحث عنه في المكان الخطأ فقط لأنه مضاء! هناك حلول كثيرة ولكن العبرة في مناسبة الحل للمشكلة! لا يكفي أن يأخذنا الحماس في التركيز على جانب وإهمال جوانب أخرى! من السهل إلى درجة كبيرة ابتعاث الطلاب والطالبات، ولكن من الصعب جدا استيعابهم في اقتصاد بسيط يفتقد لاستراتيجية اقتصادية وطنية بعيدة المدى وهيكل صناعي لا يعتمد على التقنية العالية ولا يرتكز على الصناعات الرأسمالية التحويلية.
سيكون من الخطأ تطوير كفاءة ومهارات ومعارف الشباب والشابات ورفع سقف توقعاتهم دون تلبيتها بهيكل اقتصادي يستطيع استيعاب تلك المهارات والمعارف. الهدف هنا ليس استيعاب العائدين من الابتعاث كماً وحشرهم في وظائف وحسب، ولكن الاستفادة منهم في تطوير الاقتصاد وزيادة نموه وإنتاجيته وقدرته التصديرية التي هي مفتاح التنمية. الابتعاث مكلف وهو بلا شك يستحق التكلفة على شرط أن يكون موجها وضمن خطة واضحة المعالم تربط بينه وبين السياسة الاقتصادية وهيكل صناعي يتطلب ثقافة ومهارات ومعارف متميزة وإبداعية. أخشى أن الابتعاث إذا لم تسبقه أهداف اقتصادية وصناعية سيكون تأثيره سلبا وسيجعلنا كمجتمع أمام تحد كبير ليس في توفير وظائف تناسب مستواهم العلمي والتقني فحسب ولكن في احتواء تطلعاتهم وطموحاتهم وتوجهاتهم الثقافية والفكرية الجديدة التي اكتسبوها من تعليمهم في الخارج.
الابتعاث يخلق جيلا بثقافة جديدة وهو يستلزم بالضرورة نظما اقتصادية واجتماعية وإدارية تتوافق مع هذه التغيرات الكبيرة. على سبيل المثال لا يمكن الاستمرار على النهج البيروقراطي المركزي الثقيل ذاته والعمل الورقي الرتيب وإجراءات مالية عقيمة وثقافة تنظيمية غير مهنية. في ظل هذا الوضع الإداري سيكون هناك إحباطات كبيرة لمن تعلم وتثقف في البحث عن الأفضل ولديه دافع للإنجاز ويتوق للتطوير والتميز. ولذا ليس هناك خيار سوى إحداث تغييرات جذرية في الهيكل الاقتصادي وإيجاد صناعات وشركات حكومية لتنفيذ مشاريع وطنية ضخمة في قطاع الإسكان والنقل والأعمال المدنية وغيرها من مجالات التنمية. والعمل على الاستفادة من التجارب الناجحة واستنساخها كما شركة سابك في قطاع البتروكيماويات وبكل تأكيد شركة أرامكو السعودية في قطاع البترول. إنشاء هذه الشركات والصناعات يتطلب وقتا طويلا ولا بد من البدء بها من الآن ومسابقة الزمن قبل عودة المبتعثين حتى نتجنب الاختلالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية التي ربما تفرزها تغيراتهم الثقافية والفكرية.
تقع على مجلس الشورى كهيئة وطنية تمثل المواطنين مسؤولية الطلب من الجهات المختصة وعلى رأسها وزارة الاقتصاد والتخطيط وضع استراتيجية وطنية صناعية يتداخل في صياغتها جميع الجهات الحكومية والمؤسسات الخاصة ومنظمات المجتمع المدني يصادق عليها من المجلس ويتم الالتزام بتنفيذها ومتابعتها. الأمر لا يتعلق بتطوير الاقتصاد وقدرته الاستيعابية للخريجين فحسب وإنما يمس أمننا الوطني، ولذا لا بد أن يأخذ أولوية قصوى في أجندة العمل الحكومي. بعض المشكلات ترى صغيرة في خط الزمن البعيد ولكنها في واقع الأمر ضخمة، ولذا علينا أخذها على محمل الجد والتحسب لها وإعداد العدة قبل أن تقع الفأس في الرأس ولات حين مناص! والحل لا يمكن أن يكون مجزأ تتقاذفه الأجهزة الحكومية وعمل متشرذم وسياسات ضعيفة، لأنه حينها نفشل في مواجهة التحديات وتنقلب الإيجابيات إلى سلبيات. وسيكون من الخطأ رؤية الابتعاث من زاوية قطاع التعليم العالي كمعالجة لمشكلة القبول بالجامعات أو حتى منح الطلاب والطالبات الفرصة لتطوير قدراتهم وثقافتهم لأن ذلك يؤجل حل المشكلة ولا يعالجها من جذورها. لقد حان الوقت للتفكير في المستقبل ووضع تصورات اقتصادية واجتماعية جادة والربط بين الحاضر والمستقبل، وهذا لا يتأتى إلا من خلال إعادة هيكلة الاقتصاد وتوجيهه نحو صناعات تحويلية تكون هي مرتكز الاستراتيجية الوطنية وتصب فيها جميع السياسات والموارد، وتحقق العمل المشترك أساس نجاح جهود التنمية.