قـُلْ : يا رب

حين تُمرن الأقدار النفس على اللجوء إلى الله وحده بلا شريك، فذا درس حكيم لا يفطن إليه إلا العقلاء من الناس وهم قلّة، وكثير منهم يبادرون بالسخط ريثما يقفون بباب أحدٍ من الخلق طالبين قضاء حاجة ثم لا يُستجاب لهم، مُعتقدين أنهم ليسوا من المَحظوظين الذين تتفتح بين أيديهم مغاليق الأبواب المؤصدة، ولو تريث هؤلاء،قليلاً، لعلموا أن الله قد أراد لهم الخير من حيث لا يشعرون!.

صحيحٌ، إنّ الله قد خصّ نفراً من الناس بقضاء مصالح إخوانهم، ولكن دون أن يخضع الطالب للقاضي، ودون أن يتعالى القاضي على الطالب، إذ الخضوع والانكسار لا يكون إلا أمام الله، الذي هيأ القاضي للطالب ليكون سبباً لتحقيق مطلبه، ولأن الكبرياء رداء الله ولا يجوز لمخلوق أن ينازع الخالق في أحد صفاته.. فإذا حجب الحكيم العلام قضاء مطلب لعبد لدى عبد آخر فإنما حجبه حماية لدينهما، وحفظاً لكرامة وماء وجه من طلب، وليس لهوانه على الله كما يتصور ضعاف الإيمان الذين يتعجلون ويولولون ويشكون الخالق إلى المخلوقين.

أؤمن أن النفس المؤمنة حين تُوطن على الكفّ عن كثرة السؤال لدى الخلق، فإنها ستسمو وقتئذ على سُلَّم الدعاء والنجوى نحو ربها، الذي بيده مقاليد كل شيء، وذاك ما وجه إليه رسول العالمين، محمد - صلى الله عليه وسلم -، حين قال: «إذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله..»، وسؤالُ الله رفعة وعزة واستغناء عما في أيدي الناس، وفوق ذلك فهو عبادة وقربى إليه، إضافة إلى أن الله يحب العبد «الملحاح»، أي الذي يكثر في الطلب ويكرره دون ملل أو كلل.. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى، إما بموت عاجل أو غنى عاجل».

ومن تجربتي الشخصية أقول: إنني ما قصدتُ باباً من أبواب «أصحاب النفوذ»، حتى أنجز طلباً شرعياً عجزت عنه إلا باءت محاولتي بالفشل الذريع، ليس لأن من قصدتهم قد قصروا، ولكن لأمر خفي، الله به أعلم، ثم أجدني وقد نسيت الأمر واضمحل به اهتمامي وتوارت عنه لهفتي، وإذا بي أمام فرج إلهي من طريق لم يكن في حسباني، دون أن يكون لأحد على فضل من بعد الله، ودون أن تنكسر هيبتي أمام أحد غيره سبحانه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

قرأتُ قصة قديمة، لا زالت أحداثها عالقة في رأسي شذراً.. يُحكى أن رجلاً كان يمتهن جمع نوى ثمار التمر من الطرق، وذات مرة وقعت عينه على واحدة قد غارت في الأرض، فجلس مشغولاً بمعالجتها، فجاء موكب الأمير ماراً من الطريق والرجل جاثٍ على ركبتيه يحاول اقتلاعها، فمر الموكب دون أن يرفع الرجل هامة أو ينصب قامة، انشغالاً بما يفعل، فغضب الأمير لذلك واستدعاه إلى قصره، فقال الأمير للرجل: أما علمت أن لموكب الأمير هيبته واحترامه، فقال الرجل: وما لي ومواكب الأمراء، هي مهنتي أترفع بها عن سؤال الملوك والأمراء، فأمر له الأمير بمائة ألف درهم، فقال: أيها الأمير رُدّ عليك دراهمك ودعني اذهب إلى نويّاتي، فقال الأمير: عظني يا رجل، فقال: لا أملك إلا كلمات أرددها في صباحي وفى مسائي وفى كل حالي..
أرى الدنيا لمن هي في يديه
هماً كبيراً إذا كثُرت لديه
تهين المكرمين لها بصغـر
وتكرم كل من هانت عليه
إذا استغنيت عن شيء فدعه
وخذ ما أنت محتاج إليه

فيا أيها اللبيب: ما دامت حوائجك لا تنقضي إلا بأمر الله وحده.. فكن معه وحده، وكن له وحده، ففي الحديث القدسي الجلي: «عبدي اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتني فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من أي شيء».. فيا عزيزي: لا تهتم ولا تغتم ولا تتعب، « فالله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً».

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي