المنقذ «أرامكو»

التفوق حلمٌ يراود كثيرين، لكنه لا ينال إلا من القليل، والسبب أن المشكلة ليست في الأحلام، وإنما في القدرة على تحقيقها، فكل إنسان حالمٌ، لكن ليس كل إنسان قادر، وسبحان القادر على كل شيء والقدير، هكذا اقتضت الحكمة، وبهذا تجري سنن الحياة؛ إذ لو أتيح للعاجز والمتقاعس تحقيق أحلامهم كالقادرين، لاختل ميزان العدل، واضطربت أمور الناس، وأصبح الحياة باهتة معقدة.
لكن سُنة أخرى من سنن الحياة، اقتضت أن يمد القادر يد المساعدة للعاجز، فالحياة لا يمكن أن تقوم على واحد، وكلما كان التعاون كبيراً كان النجاح أكبر، وقد حرصت شريعة العدل الإسلامية على العناية بهذا الجانب، ونصوصها حافلة بهذا، وأنتجت في عصورها الزاهرة من القصص التي لا يزال محل فخر وتباه في حياتنا المعاصرة.
هذه المقدمة البسيطة أسوقها وأنا أقرأ خبر اختيار ''أرامكو'' وتشرفها بثقة خادم الحرمين الملك عبد الله ـــ يحفظه الله ــــ واختيارها لبناء البنى التحتية لمدينة جازان الاقتصادية أخيرا، وهو تشريف كبير، وموضع تقدير يضاف إلى إنجازاتها المختلفة، إن لم نقل: تتوج به إنجازاتها المختلفة على أرض الواقع، فالتشريف الملكي يعني الكثير.
لا شك، كلنا يفخر بهذا العملاق السعودي كأكبر شركة نفط في العالم، وأنها أحدثت نقلة في المجتمع السعودي من حيث تطوير الكفاءات التي لديها، ورفعت مستوى معيشة موظفيها، وتحولها من شركة نفط إلى شركة طاقة.
وكلنا كذلك يفخر بـ''أرامكو'' التي تقدم خدماتها الاجتماعية للمجتمع انطلاقاً من أقدم مبادراتها التي كانت ''مدارس أرامكو''، ولا سيما أن الجميع يعرف الفرق بين المدارس التي تبنيها وبين المباني المستأجرة والمباني الحكومية، وتوسعت ''أرامكو'' فأصبحت تشرف على مشاريع الدولة، ومنها: مشروع جامعة الملك عبد الله، ثم المدينة الرياضية، وستبقى تضيف الإنجاز تلو الإنجاز الذي تستحقه بكل جدارة.
لكن السؤال المهم: لماذا ''أرامكو'' بالذات من يجب أن يقوم بكل هذه الأدوار المهمة؟
بعبارة أخرى، وحتى لا يتطرق سوء فهم غير مقصود لكلماتي المقتضبة، أقول: هل انحسرت الكفاءات الوطنية، وتم اختزالها جميعا لتكون في صورة ''أرامكو''؟، أم لا يزال هناك الكثير؟، أجزم بأنه لا يزال هناك الكثير، ويؤيدني في هذا كثيرون أيضاً؟، إذن، فلم ''أرامكو'' وحدها في الساحة في ظل وجود عمالقة سعوديين آخرين كشركة سابك، أو الهيئة الملكية في الجبيل وينبع، وهي من تشرف على هذا المشروع، خصوصاً أن مدن الهيئة الملكية تعد من أفضل المواصفات والمقاييس، أو لماذا لا تكون لدينا هيئة للمشاريع الحكومية هي من تشرف وتتشرف بتطوير مشاريع الدولة؟ هي كلها مجرد استفسارات لا تقلل مطلقاً من قيمة ''أرامكو''؟
لكن، قد يكون مما يميز ''أرامكو عن غيرها من القطاعات الحكومية أن كفاءة موظفيها عالية، وذلك بسبب أن ''أرامكو'' تستثمر في مواردها البشرية وتسعى إلى تطويرهم المستمر، وهذا ما أعطى ميزة تنافسية لها عن باقي موظفي الدولة، وقد يكون هناك سبب آخر يميز ''أرامكو''، وهو أنها لا تدار بطريقة بيروقراطية على غرار ما تدار به مفاصل أخرى، كما أنها متحررة من قوانين المناقصات الحكومية، ولها نظامها الخاص.
إذن!، لماذا لا نستفيد من هذه التجربة في الإدارة بنظام الشركات؟، أي بأن يكون لكل هيئة مجلس إدارة يضع الاستراتجيات العامة لها، ويراقب الأعمال والإنجازات ويتأكد أن هذا الرئيس التنفيذي وطاقمه الإداري يقومون بتأدية المطلوب منهم على وفق أهداف معلنة للجميع، والمجتمع كفيل بالمراقبة والتصحيح.
اليوم، أصبح واضحاً أن لدينا مشكلة إدارة في المشاريع العملاقة، ولدينا مشكلة ثانية في أنه لا يوجد لدينا شركات مقاولات عملاقة يمكنها تحمل المشاريع العملاقة، والمشكلة الثالثة أن هذه الشركات العملاقة لا تتكفل بتدريب شركات أخرى أو موظفين آخرين، وإنما تستقل في تدعيم طواقمها بالخبرات والحرفية العالية ودعم مستويات التنافسية ليبقى الأمر على حاله، ويبقى ترتيب قطاع الأعمال ــــ القطاع الخاص ـــ كما هو يحلم، لكن أحلامه لا تتجاوز مستوى باب غرفته، إن لم يكن أقرب.
وبعد هذه الرحلة القصيرة، فإني أضع أمام وزير التجارة مقترحاً بالعمل على تأسيس شركة وطنية عملاقة للمقاولات تطرح في سوق الأسهم ويكون المواطن مشاركا في هذه الشركة، ونضع ''أرامكو'' أخرى في قطاع المقاولات، وشركة أخرى متخصصة في إدارة المشاريع، ونفعلها كلما احتجنا إلى طاقة وطنية كبيرة تأخذ على عاتقها القيام بأعباء وطنية كبيرة، وبهذا نعمل على تنويع مصادر الدخل للدولة ولا نصدّر أموالها إلى الخارج، ونصنع فرصاً وظيفية للشباب، والعديد من القيم المضافة، فحارس الأمن هو حارس الأمن، لكنه إذا كان في شركة أرامكو السعودية على سبيل المثال فالأمر يختلف، ويكون ''أبَّهة!''، وكذلك مهنة الحداد نادراً ما تجد سعودياً يرغب في هذه المهنة، لكن لو طلبت حداداً في شركة أرامكو لاصطفت طوابير الشباب للتسابق على هذه الوظيفة، وهلم جراً. ''أرامكو'' اليوم هي المنقذ في مشروع جازان، لكن أتمنى أن يتحول هذا الفريق إلى نواة لشركة جديدة تدير المشاريع في الدولة وتنبثق من ''أرامكو'' السعودية على غرار صدارة، نريد أن يكون لدينا 50 شركة عملاقة مثل ''أرامكو''، وحلم كهذا إن لم يكن بعيداً فليس مستحيلاً.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي