الريادة الحقيقية.. في أي مرحلة نحن الآن؟ (1)
في خضم كل هذا الحراك في مملكتنا الحبيبة، هل يتفق المجتمع بكل مؤسساته وفئاته وأفراده على المبدأ؟
كل مؤسسة أصبحت تعنى بكتابة الرؤية والرسالة والأهداف في محاولة أن تسلك طريق التميز ثم الريادة، فتحقق لمنسوبيها أمانيهم في الازدهار والرفاه والتفرد فيما يقدموه بجودة الأداء والتعامل مع المؤسسات الأخرى محليا ودوليا. هذا التوجه لم يعد لمؤسسات دون أخرى أو أفراد معينين. لقد أصبحت الآن كل دول العالم تسعى للانتشار عالميا فتكون مكاسبها ليست فقط مادية، بل معنوية ومستديمة لزمن طويل. في خضم كل هذا الحراك في مملكتنا الحبيبة، هل يتفق المجتمع بكل مؤسساته وفئاته وأفراده على المبدأ؟ وبالتالي يكون التحرك وفق معايير معروفة ويمكن قياس التقدم في مراحل محددة بعد وضع مؤشرات تدلل على سلوكنا للطريق الصحيح وتحقيق ما نصبو إليه حسب الأصول المتبعة في هذا المجال؟
المشكلة هي أن الحديث والكتابة عن الريادة العالمية لا يلقيان تفضيلا لدى المفكرين والمتخصصين من الأكاديميين والكتاب العرب. قد يكون ذلك لأنه موضوع يتخطى المحلية والمناطقية إلى العالمية بنظريات اقتصادية شبه بحتة، وبالتالي يغيب عن الكثير معرفة كيف يتقدم. وقد يكون في شح المختصين، وبالتالي قلة الأبحاث والدراسات في هذا الموضوع وعدم اللجوء للنشر العلمي والإعلامي. هذا جعل المصادر العربية الهادفة نادرة قياسا بالأخرى التي تعرض باللغات الأخرى. وبالطبع يصبح الفرد العربي يتحرك محليا ولا يتقدم دوليا. بل هو أيضا قد يعطل نفسه في شأن ما، وبالتالي يجد نفسه غارقا في الأعمال اليومية وتظل الرؤية دائما مستقبلية الصياغة، ولكن لا تتحرك من حاضرها. فلماذا لا نباشر بتحريك الساكن ودعم تقدم المتحرك نحو تحقيق هذه الرؤية؟
منذ أربع سنوات ووزارة التعليم العالي في السعودية ممثلة في مركزها الرئيس والجامعات المرتفقة بها والمراكز العلمية المختلفة التابعة لها والمرتبطة بها والمتحدة في الأهداف معها قد حددت وجهتها للريادة العالمية بغية الاستفادة مما دفعت به ودعمته قيادتنا الرشيدة ـــ يحفظهم الله ــــ جميعا لرفع شأن الدولة في التعليم والمعرفة والاقتصاد. منذ ذلك الوقت وهذه الصروح تسجل تقدما تلو آخر وتحقق الإنجازات محليا ودوليا منفردة أو متعاونة مع أقطاب آخرين لهم باع طويل في هذا المجال. ولأننا لم نتوقف ولا أظن أن أحدا يستطيع ذلك الآن إلا أننا نحتاج إلى التأكد أننا نسير وفق مسارات تكفل وصولنا جميعا "أفراد ومؤسسات" لتحقيق التميز ومن ثم الريادة الحقيقية.
في البداية أستطيع القول إن مفهوم الريادة العالمية لا يزال يكتب ما اتفق عليه المجتمع الدولي من تعاريف، ولكن هي صياغة قد يختلط على الكثير فهمها مع أنهم حاضرون مع هؤلاء المتخصصين والمثقفين.. أعتقد أننا لا بد أن ننزل لمستوى أقل في الكتابة والنشر والحديث وإرسال الرسائل عن الريادة العالمية. وأعتقد أننا لو بدأنا بتعريفها ثم صياغتها في الرؤى والرسائل والأهداف مصحوبة بوضع قيم يتبناها منسوبو كل مؤسسة حكومية كانت أم خاصة. فإن بالخوض في التجارب والأمثلة على ذلك سنضمن أن يكون المجتمع على المسار نفسه الذي وصل إليه الاقتصاديون والمتخصصون والمفكرون ومن لديهم الملكة في الكتابة عن الموضوع.
كتمهيد بسيط للموضوع لو أخذنا مثلاً صناعة الغذاء. هذه الصناعة تستحق منا الوقوف عندها للترويج للريادة العالمية وإيضاح بعض مفاهيمها. فلو أن شركة أغذية أصبحت بجودة منتجاتها مشهورة في بلد ما بنشر سلسلة غذائية قوية. وتمكنت هذه الشركة من عقد الصفقات لترويج منتجاتها الغذائية خارج الحدود "في بلد آخر". وتوصلت مع الممثل في البلد الآخر إلى استضافة فرع مع الترويج للمنتجات مستقبلا ضمن إطار الجودة نفسه التي بنت علامتها عليه. وبدأ البلد الآخر في تحقيق المطلوب مع إعطاء المنتجات نكهة محلية. هنا حققت العلامة التجارية انتشارا عالميا بتخطيها الحدود وانتشارها في العالم. كما أن الشركة المستضيفة تمكنت من جذب أكبر عدد من العملاء والمستهلكين لتناول هذه المنتجات "بعد أن احترمت أذواق المحليين" بنكهات تتواءم والمجتمع المحلي، ولكن تحت شعار الشركة الأم. هنا بدأت الشركة الأولى في تحقيق الريادة العالمية وبهذه التجربة سيكون لها موقع قدم في بلدان أخرى بعد الالتزام بشروط تطبيق جودة المنتجات. وبالتالي فهي تشكل علامة فارقة في إنتاج الأغذية المرنة في ذوقها الصارمة في معايير إعدادها وتقديمها وتسويقها. وكمثال آخر في الإدارة لو أن شركة أو مؤسسة ضخمة وظفت قائدا إداريا واقتصاديا متميزا من بلد آخر، وكان هذا الخبير يستفيد من اتصالاته مع بلده وبلدان أخرى في المجال نفسه سواء بالتعاقد مع مهنيين أو تدريب بعض القوى العاملة في مؤسسات ببلده أو يستجلب بعض العقود مع مصانع أو مؤسسات لها القدرة على القفز بالإنتاج بشكل متسارع. وبعد ذلك وصل بجودة المنتج لمدى يقترب من الكمال. فإن الشركة التي وظفت هذا الإداري القائد تركت بصمتها محليا وعالميا وهي ريادة في حد ذاتها تخطت بتحقيقها الحدود ولتكون علامتها التجارية سمة للعمل الناجح والجيد بعد تعاقدها مع هذا الخبير.
أما في التعليم العالي فلأن المواضيع تتشعب بين تعليم وتدريب وبحث وإدارة وتمويل، وهذه الصروح العلمية الشامخة هي التي سيعول عليها قيادة التوجه نحو الريادة العالمية، فسيخصص ما بقي من حديث عنها في الجزء التالي من المقال.