التخطيط الصحي .. الاهتمام بالطبيب والتطبيب

على مدى سنين طويلة في العمل مع الممارسين الصحيين (من كل التخصصات) والجلوس معهم في مواقع ومواقف مختلفة استطعت التعرف على معظم ما يقلق هذه النخبة من العاملين. إنهم يشعرون كما يشعر الغير، ويألمون كما يألم غيرهم، لأنهم جزء من المجتمع، كما هم يعالجون غيرهم فهم في حاجة إلى من يعالجهم أو يعالج ما يعانونه ليكونوا أفضل إنتاجا وتقديما لرعاية صحية نموذجية. لقد آثرت أن أؤجل نشر مثل هذه الانطباعات لحين التثبت من تكرارها في فترات متتالية والتأكد من أن لها علاقة وطيدة بوضعنا الصحي أولا ثم الاجتماعي والثقافي والاقتصادي. المشكلة أنه في كل مرة نشعر بتلاشي أحد العوامل يستجد ظرف يعيد إبرازه بشكل آخر. كما أن عملية استقصاء الرأي حول أي عملية تطوير ليست من أسس التطوير لدينا. فالمسؤولون مثلا يحددون ما يريدون بحجة أنهم كانوا صغارا وأصبحوا كبارا وعاصروا المشكلات فلا داعي لأن يستغرقوا مع المستجدين أو حتى القدامى - من غير المحظوظين - وقتا يضيع فرصة جيدة في حياتهم المهنية الإدارية.
لقد حاولت في هذا المقال أن أحصر الفئة في الأطباء مركزا على ما يؤرقهم ويدعو إلى الاهتمام بهم لتقليص فرص إحباط وسائل وسبل التطوير والارتقاء في تقديم أفضل رعاية صحية. لم يتم اختيار العوامل بشكل مرتب لعدم التأكد من ترتيبها بشكل منطقي؛ حيث يتطلب ذلك إجراء دراسة علمية منهجية لإثبات ذلك. لكن تمت مقارنة ما استنتجت بما تم نشره علميا وإعلاميا رصينا على مستوى بعض الدول ووجدت تشابها كبيرا في بعض العوامل المذكورة هنا.
كان الهدف من التعمق في التعرف على واقع هذا الكادر عبارة عن:
(1) فهم قلق الممارسين الصحيين قبل وخلال الانضمام للقوى العاملة في أي من المرافق الصحية المختلفة.
(2) التعرف على أهم العوامل التي تؤثر في تعزيز علاقات الممارسين الصحيين بالمرضى.
(3) إمكانية وضع مقومات الخطط المناسبة والبديلة لمواجهة معوقات تقديم الخدمات الصحية بالجودة المأمولة بشكل احترافي ومتطور. هذا من المؤكد سيصل بنا (مع العزم على التعامل الجدي مع هذه العوامل) إلى تقليص الوقت الذي عادة نستغرقه لإحداث نقلة نوعية وتطوير مجود في هذه الصناعة التي تعود فوائدها على الصحة العامة التي إذا ما تحسنت يتعافى مجتمعنا من عوارض كثيرة.
لقد وجدت أن (1) الأجور والحوافز هي أكثر ما يمكن أن يدور بينهم في كل وقت. مع أن هذه المشكلة تم حلها جزئيا في السلّم الجديد إلا أن هناك ثغرات أعادت الشعور بالقلق لبعض الفئات. (2) الحياة الاجتماعية؛ حيث يمتعض المتخصصون في تخصصات تتطلب وجودهم حتى خارج أوقات العمل كالطوارئ والولادة وبعض تخصصات الأطفال، وغيرها من قضاء الوقت بين المستشفيات والعيادة، ولا تحظى العائلة بمثل هذا الوقت. هذا يجعل البيت جحيما في حالات أو باردا عاطفيا في حالات أخرى، ما يشعرهم بالضغط النفسي على نحو مستمر. طبعا الإناث في مهنة الطب يتعرضن للكثير من الضغوط النفسية إذا كُنّ متزوجات أو اعتمدن على الوالد أو الإخوان لإيصالهن إلى مواقع العمل دائما وفي أوقات متأخرة دوريا, ما يفقد صبر العائلة بعد فترة ليست بالطويلة. (3) حجم العمل وما ينتج عنه من ضغط نفسي وتأثير في المرضى بقرارات لا تكون مناسبة مهنيا. وبالطبع يمكن تعديل مثل هذه الظروف. (4) التغييرات الإدارية سواء من ناحية القرارات أو تغيير المسؤولين أو غير ذلك مما لا يفترض أن يعيشها الطبيب في المقام الأول. لقد أصبحت مصادر إلهاء وتشتيت للذهن حتى وقت العمل. (5) اللجوء للاعتذار عن علاج بعض الحالات للإجحاف في الجزاءات التي تقع على المتهم بالتقصير أو الاجتهاد في التشخيص أو العلاج، مع أن التأهيل اللازم والخبرة الكافية متوافرة للتعامل مع هذه الحالات. (6) فقد السيطرة على المحافظة على مستوى العيادة أو المستشفى نتيجة التدخلات، والاعتبار لوضع ومكانة الطبيب في المنشأة، وأسلوب تقديم الخدمة بأسلوب ربحي (بالذات في القطاع الخاص). إضافة إلى ذلك ضعف مكافحة العدوى وعدم اتخاذ إجراء حازم وجريء (في المستشفيات الحكومية الكبيرة). (7) صعوبة تحسين العلاقة بين المريض والطبيب, حيث يغلب عليها التشكيك وعدم الرضا. قد يكون للإعلام دور كبير في هذا العامل؛ حيث التناول السطحي للقضايا الصحية ومحاولة زيادة المبيعات على حساب الصحة عموما. من ناحية أخرى، بعض المرضى يعتقد أنه "يَعْلَم" فيملي على الطبيب كيف يعالجه وما يصلح له ولا يصلح. (8) استخدام التقنية في العيادة والمختبر والمكتب لتسهيل عملية نقل وتبادل البيانات والمشاركة فيها لتفادي إيذاء المرضى بتكرار الفحوص، وبالذات الإشعاعية، ورفع مستوى الفاعلية في تقديم الخدمات الصحية عموما. (9) تجهيز مواقع العمل سواء كانت مراكز للرعاية الصحية الأولية أم مستوصفات أم مستشفيات، وذلك حسب أفضل وأحدث معايير تقديم الخدمة.
في الحقيقة نحن في حاجة إلى دراسة وطنية موسعة تشمل المجالات الأخرى أيضا (التمريض والصيدلة ... إلخ) ليكون تخطيطنا الصحي والاجتماعي والاقتصادي متطورا ومحاكيا الواقع في كل حقبة زمنية، وبهدف أن نبني أسسا متينة لتنظيم وضع جميع الممارسين الصحيين فيكون المستقبل زاهراً - بإذن الله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي