اقتصادنا الحر .. بين النظرية والتطبيق
''اقتصادنا حر''..
''سوقنا حر''..
''مستثمرونا يتمتعون بالحرية الكاملة''..
هذه المصطلحات من أكثر المصطلحات تداولاً بيننا، وعند الترويج للاستثمار في بلادنا، يتحدث بها الوزراء والمسؤولون، والصحافيون، والكتاب. نتحدث بها في مؤتمراتنا وفي المحافل الاقتصادية، ومع المستثمرين الأجانب، ومع المسؤولين في الغرب والشرق، ونباهي بها نظراءنا في كل مكان محلياً وإقليمياً وعالمياً.
وهي للأسف شعارات نتغنى بها ونتمنى التوصف بها، ولكنها لا تطابق الواقع، ولا تتجاوز الألفاظ إلى المعاني.
الاقتصاد الحر، له قواعد وأصول، من أهمها وأبرزها عدم تدخل مؤسسات الدولة في الأنشطة الاقتصادية وترك الحرية والسوق ليضبط آلياته بنفسه، وعدم منافسة الدولة للقطاع الخاص وتدخلها في أي قطاع يستطيع القطاع الخاص أن يقوم به.
بالطبع لا أعني هنا أن تكون السلبية هي سيدة الموقف، فالدولة تقوم بأدوارها الرئيسة من حيث التنظيم والتشريع والدعم العادل، وتنظيم المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية ووضع المواصفات القياسية.
وقد يكون تدخل الدولة مهماً ولازماً في ظروف معينة واستثنائية، خاصة عندما يكون هذا التدخل إيجابياً لمصلحة المجتمع ودعم مؤسساته الخاصة والعامة، ولكن هذا التدخل يجب أن لا يكون هو الأصل بل الاستثناء من الأصل وبمبررات مقنعة لا يتضرر منها جانب على حساب جانب آخر.
عندما ننظر إلى واقع الحال، نجد مع الأسف أن التطبيق على أرض الواقع يختلف كثيراً عن التنظير والمثالية التي يدعيها كثير من المؤسسات الحكومية، ومن هذه الممارسات على سبيل المثال: تحديد سقف أعلى للرسوم المدرسية في المدارس الخاصة. ثم في الوقت نفسه تحديد حد أدنى لرواتب المدرسين المواطنين، ثم إرغام المدارس الخاصة على تعيين المواطنين، حتى لو كانت تكلفة تعيينهم أعلى.
ومن هذه الممارسات أيضاً إيقاف تصدير الحديد والأسمنت في وقت من الأوقات! وتحديد السقف السعري لهما. على الرغم من أن بعض هذه المصانع قامت اقتصادياتها أصلاً على أساس التصدير.
كما أن الدولة تمارس التدخل من خلال: إيقاف تصدير المياه في أوقات متفرقة! وفرض رسوم مختلفة دون سابق إنذار، وتسعير السلع، أو وضع حدود للأسعار فيها، مع عدم ثبوت منافسات احتكارية بخصوصها، وعدم التفرقة بين الشركات التي تحصل على دعم حكومي مباشر وغير مباشر والشركات التي لا تحصل على مثل هذا الدعم.
كما أن تدخل الدولة قد يأخذ بُعداً آخر من خلال الإخلال بمفهوم المنافسة للقطاع الخاص، مثل اتجار صندوق الاستثمارات العامة بأسهم الشركات، ومشاركة الحكومة في مشاريع وشركات يمكن أن يقوم بها القطاع الخاص، والمضاربة في سوق الأسهم من قبل صناديق الدولة الحكومية وشبه الحكومية! وقيام الدولة بإعانة بعض المشاريع والشركات المساهمة بشكل يخل بمفهوم المنافسة.
لقد ضِعنا بين مشيتي الغراب والحمامة، فلا نحن دولة تسير وفق قواعد السوق الحر، ولا نحن سكتنا عن التشدق بذلك وأوضحنا سياستنا المعلنة بهذا الخصوص، فلم يصبح تفاعل العرض والطلب هو المسير الحقيقي للسوق، وأصبح مصطلح المنافسة الحرة غائباً عن المشهد!
لا أطالب بغياب الرقابة الحكومية، ولا بإيقاف دور الحكومة المهم في إيقاف المنافسات الاحتكارية، أو الغش والتحايل، ولكني أؤيد أن يقتصر دورها على دور المنظم والمراقب لمصلحة السوق ككل منتجين ومستهلكين وتجار ومصنعين، ومزارعين ومسوقين... إلخ، إضافة إلى دورها المهم في دفع عجلة الإنتاج الوطني للأسواق المحلية والدولية ودعمه وحمايته من الإغراق ومن المنافسة غير الشريفة من الداخل والخارج.
يضاف إلى ذلك الدور الآخر المهم للجهات الحكومية من خلال تسهيل الممارسات الاقتصادية، وأهمها وضوح السياسات وثباتها على المدى الطويل، وتسهيل الإجراءات بشتى الطرق التي تعزز الاستثمار المحلي من قبل المستثمرين المحليين والأجانب.
لن يستغني رجال الأعمال عن الدعم المباشر للإنتاج المحلي، سواء كان منتجاً أو خدمة أو مادة أولية، من المهم أن يكون هذا الدعم معلناً وعادلاً للجميع، ومتوازناً بين الأنشطة الاقتصادية، وفق أهميتها ومساهمتها في الناتج المحلي ودعم اقتصاديات السوق، والأهم أن يكون دعم الحكومة محفزاً لقطاع الأعمال على مستوى الأفراد والشركات لتعزيز استثماراتهم المحلية وزيادة حجمها وتطويرها، والموازنة العادلة بين دعم قطاع المنتجين وحماية المستهلكين.
تشخيصي للوضع القائم بأننا لا نسير وفق استراتيجية واضحة ومعلنة، وليس هناك قدرة على التنبؤ بما سيتم الالتزام به والمحاسبة عليه. يُعين مسؤول تضيع السنة الأولى من خدمته لوضع استراتيجية، ثم تضيع سنة أُخرى لتعديل الوضع القائم، ثم يبدأ التنفيذ، ثم يتبين أن الشق أكبر من الرقعة، أو أن المسؤولية أكبر من المسؤول، فتتم إقالته قبل أن يبدأ الإنجاز، فيأتي مسؤول آخر ويكرر التجربة، وهكذا دواليك.. مرة تلو أخرى.
لا أزعم أن هناك حلا مثاليا، ولكني بالتأكيد أتطلع إلى وضع إيجابي يستفيد منه الوطن بكليته، المستهلكون والصنّاع والتجّار والمستثمرون المحليون والمستثمرون الأجانب والحكومة... إلخ.
هذا الوضع يجب أن يكون وضعاً مستقراً واضحاً غير مزاجي وغير شخصي، ومن خلال استراتيجية يشارك في وضعها ممثلون عدول لجميع الأطراف، ويتم الاتفاق عليها وإعلانها، وتراجع دورياً، وعند التغيير عليها تمر بمثل الإجراءات التي تمت عند إقرارها.
يمر علي ''بحكم عملي'' كثير من المستثمرين المحليين والأجانب، يتطلعون إلى فرص واعدة ومشرقة، وهي موجودة وبكثرة في وطني الجميل، ولكني ومن باب النصح الذي يفرض علي أن أوضح لهم المخاطر والعقبات، تنتهي الاستشارة غالباً بحقيقة أن أفضل استثمار ممكن في ظل الظروف التي شرحتها هو الاستثمار في الأسهم أو في العقار، فهو يجنب المستثمر كثيراً من العقبات والالتزامات، ويحقق له أكبر المنافع، لكنه في الحقيقة ومع الأسف الاستثمار الأضعف من حيث الفائدة المجتمعية، لانعدام القيمة المضافة فيه للوطن والمواطن.