رجل الأعمال هل يهرب من ممارسة الأعمال؟

في الغالب لا توجد أسرة ليس لها رابط بالعقار، إما تجارة أو وساطة، أو تطوير أو استخدام وشراء وبيع، لذلك تجد الحديث عن العقار يفتح المجلس للجميع للمشاركة، فلن تجد شخصاً لا يخلو من تجربة عاشها معه سواء كانت النهاية معه سعيدة أم بائسة.
كثير من البيوت التجارية تمارس تجارة العقار كملاذ آمن قليل التكاليف عالي الربحية، حتى أن بعض هذه البيوت أثرى من العقار أكثر من نشاطه الأصلي، بل وتحولت بعض البيوت التجارية من أنشطتها التجارية والصناعية والخدمية للقطاع العقاري لأسباب عديدة، من أهمها سهولة ممارسته، وقلة تكاليفه، وخروجه خارج دائرة الرقابة الحكومية بشكل عام، فهو لا يحتاج لكثير من الأيدي العاملة، وبالتالي فسعودة القطاع سهلة، كما أنه خارج بوصلة مصلحة الزكاة والدخل، والحيل في التلاعب على المصلحة فيه كثيرة . العقار هنا أنواع وممارسته ليست واحدة أيضاً، فمن يتاجر في العقار، مختلف عن من يقتني للتأجير، وهذا يختلف عن المطور الذي يبني ويبيع، كما أن السوق مختلف عند اختلاف الفئة المستهدفة، فمن يستهدف قطاع المكاتب، يختلف عمن يستهدف العقارات التجارية، وكلاهما مختلف عن من يستهدف المساكن، أو من يستهدف الفنادق.. وكلها تسمى عقاراً.
كثير من ممارسات العقاريين لا يستفيد منها الوطن أي فائدة، وهي ما ترتبط بممارسة المتاجرة في العقار، في حين تتزايد الفائدة من مطوري الأراضي والذين يضيفون بعض القيمة لأعمالهم من خلال توفير الأراضي الصالحة للاستخدام، والقيمة الأكبر تكون عند المطور الشامل الذي يقدم منتجاً متكاملاً صالحاً للاستخدام مباشرة، سواء كان ذلك سكناً أو مكتباً أو متجراً أو مصنعاً أو مستودعاً... إلخ.
ويلاحظ اليوم أن الأنظمة الحكومية، التي بدأت في السنوات الأخيرة تزيد من الضغط على القطاع الخاص، سواء كان ذلك في الرقابة السعرية، أو توظيف المواطنين، أو الرسوم على الوافدين، أو الشح في التأشيرات، أو إشكاليات الجمارك... إلخ، هذه المحاصرة تدفع رجال الأعمال إلى الهرب من كثير من الأنشطة ذات القيمة المضافة للبلد، وتهاجر إلى العقار.
هذه الحالة من عدم الاستقرار في الأنظمة المحلية والقرارات الوزارية، والتي تهدف في الغالب لمصلحة المواطن، إما لتوظيفه أو لتخفيف أعباء المعيشة عليه، عمل جليل لمتخذ القرار في المدى القصير، ولكن سيكون أثرها السلبي كبيرا جداً على المدى البعيد، خاصة من حيث هروب رجال الأعمال من ممارسة الأعمال الأكثر فائدة للوطن إلى الأعمال الأقل فائدة، ومن الأعمال الأكثر كفاءة وإبداعاً إلى الأعمال التقليدية العادية.
وأبرز قطاع يمثل الأعمال الأقل فائدة والأكثر تقليدية هو العقار، وتوجه الناس للعقار لهذا الغرض هو ما أدى أيضاً إلى زيادات كبيرة جداً في أسعار العقار بأثر المضاربات التي تتم فيه، نتيجة لنزوح الكثير من رؤوس الأموال من القطاعات المنتجة إلى هذا القطاع.
كثير من المسؤولين بل المواطنين يرون قطاع الأعمال متهما بالعمل ضد المواطن، بل يصور الإعلام أحياناً رجل الأعمال بالصورة الذهنية للتاجر الجشع الغشّاش الذي لا تهمه إلا مصلحته، وليس المطلوب هنا تلميع صورة رجال الأعمال، فهم مواطنون أولاً وأخيراً، ولكن المطلوب التوازن من قبل المسؤولين في ممارسة الضغوط على قطاع الأعمال، حتى لا نفاجأ بأن هذه الممارسات كرست خروج التجار المنتجين إلى قطاعات أقل كفاءة وإنتاجاً، مما قد تنشأ عنه ممارسات احتكارية أسوأ أثراً، أو الاعتماد على منتجات أقل جودة، أو الشح في منتجات وطنية واستبدالها بمنتجات مستوردة أقل مساهمة في الناتج الوطني.
من أبرز التناقضات التي عايشناها أخيرا على سبيل المثال، مطالبة المدارس الأهلية بزيادة عدد المعلمين المواطنين ووضع حد أدنى للراتب، ثم تمنع هذه المدارس من زيادة الرسوم! أو عندما تفرض وزارة العمل رسوماً مباشرة ''مثل رسم الـ 200 ريال شهرياً على العامل'' ورسوماً غير مباشرة بفرض التوطين على القطاع الخاص، ثم تطالب وزارة التجارة قطاعات الأعمال بعدم زيادة الأسعار! أو عندما تقوم الجهات ذات العلاقة بتقنين التسعير على المواد الغذائية ومواد البناء، بينما يتم تسعير المساكن والمكاتب شراء وتأجيراً من قبل العقاريين دون أي رقابة حكومية! أو عندما تخطط وزارة العمل لتصحيح سوق العمالة الوافدة غير النظامية وتقوم بحملاتها المشكورة في الوقت نفسه الذي تشح فيه بالتأشيرات لمن يستحق وعمله نظامي 100 في المائة!.
عندما يأتيني ''بحكم عملي'' من يطلب مني المشورة من رجال الأعمال المواطنين أو الأجانب، لا أستطيع أن أقدم لهم النصح في الاستثمار، دون التعرض لإشكاليات الضغوط الحكومية، والقرارات المتضاربة، وغير المتسقة، والمفاجئة، والتي تجعل رجل الأعمال الحليم حيران وتزيد من مخاطر ممارسة الأعمال.
لا أقصد من مقالي هذا التضييق على المواطنين فأنا واحد منهم، ولا أقصد حسد العقاريين فكثير منهم لهم أياد بيضاء على الوطن والمواطنين أسأل الله أن يبارك لهم، ولكني في حال تعاطف مع الوطن حتى لا يتضرر نتيجة هروب رجال الأعمال من الأنشطة المهمة ذات القيمة المفيدة للوطن، إلى أنشطة أخرى لا يستفيد منها إلا هم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي