استخبارات غير ذكية

إنه لأمر محرج للغاية في عالم السياسة أن تضبط متلبساً بالتجسس على دولة صديقة. ولتسأل المسؤولين في الولايات المتحدة في أعقاب الكشف عن تنصت وكالة الأمن القومي على مكالمات هاتف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل المحمول. والولايات المتحدة ليست وحدها في هذا: فالآن ضبطت أستراليا متلبسة بالتنصت على اتصالات الرئيس الإندونيسي سوسيلو بامبانج يودويونو وزوجته ودائرته الداخلية.
وهذه الفضائح، من المواد المسربة من قِبَل عميل وكالة الأمن القومي السابق إدوارد سنودن، سيتردد صداها لبعض الوقت. وستكون التداعيات ضارة بصورة خاصة بالعلاقات بين أستراليا وإندونيسيا، كما أستطيع أن أشهد الآن في أثناء زيارتي لجاكرتا.
كانت علاقات الصداقة الإندونيسية بالحكومة الأسترالية الجديدة متوترة بالفعل بسبب قضية إعادة قوارب محملة بطالبي اللجوء. والآن كان رفض رئيس الوزراء توني آبوت الاعتذار ''على النقيض من الرئيس باراك أوباما'' لنظيره بعد الكشف عن المراقبة الإلكترونية سبباً في توليد غضب شعبي عارم. وتغذي هذه القضية المشاعر القومية في إندونيسيا التي تأججت بالفعل خلال فترة التحضير للانتخابات العامة المقرر إجراؤها في العام المقبل.
ولعل رد الفعل الحكيم على الإمساك بالمرء متلبساً بالتجسس على حكومة أجنبية هو الانتظار بهدوء حتى تمر العاصفة، والاستمرار في مزاولة العمليات الفنية كالمعتاد. وقد يصبح هذا ملائماً عندما يكون الهدف عدواً تقليدياً أو مشاكساً دوليا، ويشمل الأمر مصلحة وطنية كبرى، وعندما تكون عملية التجسس مرجحة بقدر ما هي غير متبادلة.
ففي مثل هذه الحالات تكون الخطيئة الوحيدة هي أن يضبط المرء متلبسا. وقد يلجأ المسؤولون إلى مناورة الدار البيضاء ''أنا مصدوم إزاء اكتشافي أن المقامرة تجري هنا!''؛ ثم بعد التوقف لبعض الوقت تستمر الحياة. وقد مررت شخصياً بتجربة كهذه، كما حدث للعديد من زملائي السابقين في الوزارة الذين أشرفوا على مثل هذه الأشكال من العمليات على جانب واحد أو الآخر خلال الحرب الباردة.
يبدو لي أنه لم يعد من الممكن الدفاع عن محاولة التبجح في التعامل مع مثل هذه الأمور، كما تحاول أستراليا أن تفعل في التعامل مع القضية الحالية. والواقع أن إندونيسيا، مثلها كمثل ألمانيا، مجتمع ديمقراطي مفتوح لا يحمل تهديداً لأحد. والمعلومات تتدفق هناك بحرية، وهي متاحة بالنسبة لكل القضايا باستثناء أكثرها حساسية إذا أرادت جارة صديقة مثل أستراليا أن تطلع عليها.
وهنا، كما هي الحال في أماكن أخرى، تنشأ المشاكل من وقت إلى آخر في العلاقات الثنائية. ولكن حل هذه المشاكل يعتمد بشكل أكبر كثيراً على إقامة علاقات شخصية استناداً إلى الثقة على أعلى المستويات ـــ النوع الذي أصبح الآن في خطر شديد ــــ وليس على محاولة الوصول إلى بعض المعلومات الاستخباراتية ''القاتلة''.
قد حان الوقت لكي تعيد وكالات الاستخبارات وسادتها السياسيون النظر في التكاليف والفوائد المترتبة على جميع أشكال التجسس وعمليات المراقبة. إذ ينبغي لهم أن يركزوا تفكيرهم على الخطر الحاضر دوماً، والمتمثل في أن العمليات الأكثر سرية لن تظل سرية ــــ كما تبرهن بوضوح الآن حالات مثل قضية سنودن وقضية ويكيليكس.
ومن الأهمية بمكان التفريق بين الأنواع المختلفة من العمليات الاستخباراتية. إن أغلب الناس يتحلون بقدر كبير من التسامح إزاء أي مستوى من انتهاك الخصوصية قد تشتمل عليه عمليات التنصت الإلكترونية المصممة لاكتشاف وتحديد المؤامرات الإرهابية المحتملة. وتشير الخبرة العالمية منذ هجمات 11 من أيلول (سبتمبر) 2001 إلى أنه في حين قد تعود مثل هذه العمليات بالقليل من الفائدة في اكتشاف صناع القنابل الهواة، فإنها فعّالة للغاية في الكشف عن المخططات الأكثر تعقيداً وخطورة التي يتورط فيها عدد كبير من الجناة.
وعلى نحو مماثل، ليس من غير المعقول أن تُكَرَّس الموارد الاستخباراتية للكشف عن القدرات العسكرية ونوايا الدول التي لا تتبنى الشفافية الكاملة، للحصول على معلومات أفضل حول المصادر المحتملة للأزمات والصراعات، أو للسيطرة بشكل أفضل على مخاطر محتملة محددة تهدد المصالح الوطنية. وهذا هو ما ظلت وكالات الاستخبارات تقوم به دوما، وهذه الأدوار مفهومة على المستوى العالمي.
ولكن ما يجب أن يكون واضحاً تماماً من حالتي الولايات المتحدة وأستراليا هو أنه لا يجوز لأي حكومة أن تشن عملية استخباراتية، خاصة ضد حليف أو صديق، لمجرد أنها قادرة على ذلك ببساطة. فمن المرجح في هذه الحالة أن تكون القيمة المضافة صفرا، والتكاليف المترتبة على الأخطاء هائلة.
إن غضب إندونيسيا، كغضب ألمانيا من قبلها، إزاء الانتهاكات الجسيمة لخصوصية الزعماء ليس مختلقا، ولن يكون أمده قصيرا. والاعتذار هو أقل ما ينبغي لأستراليا أن تقدمه الآن، على أن يقترن ذلك بالالتزام بمراجعة أساليب وأولويات جمع المعلومات الاستخباراتية. ولكن حتى مع هذا فإن سلوك الطريق الوعر الطويل لتحسين العلاقات الثنائية أمر لا مفر منه. إن العملة الأكثر قيمة في الدبلوماسية الدولية هي الثقة الشخصية؛ وانتهاك هذه الثقة لن يعود علينا إلا بالضرر.

خاص بـ "الاقتصادية"
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2013.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي